من المؤكد أن صدقية 15 حزيران أو ما قبل الوصول إليه، إما تحتاج إلى صدمة أو أعجوبة. عادت البرودة ونقيضها. ارتفاع نبرة المواقف الدالة على استمرار المأزق أكثر منه دفعه إلى الانفراج. لا أحد مرتاحاً. لا الثنائي الشيعي ولا الثنائي المسيحي ولا الأحادي الدرزي
المعتاد، وصف الرئيس نبيه برّي ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط على مر عقود بأنهما حليفان لدودان. غير المعتاد أن يكونا متباينين مختلفين في الاستحقاقات السياسية والدستورية المهمة ومقاربتها. مع ذلك، كانا أكثر من مرة، على أبواب انتخابات رئاسة الجمهورية، في موقعين مختلفين تماماً. في انتخابات 1995 كان برّي ضد التمديد للرئيس الياس هراوي وجنبلاط معه. في انتخابات 1998 كان برّي مع انتخاب الرئيس اميل لحود وصوّت جنبلاط وكتلته بورقة بيضاء ما خلا النائب عبده بجاني صديق لحود، مستأذناً رئيس كتلته حرية الاقتراع. في انتخابات 2004، اضطر برّي – كالرئيس رفيق الحريري – إلى مجاراة دمشق في تمديد ولاية لحود، بينما عارضه جنبلاط ونوابه وصوّتوا ضده. في انتخابات 2016، صوّت برّي ضد انتخاب الرئيس ميشال عون بينما صوّت معه جنبلاط. مرات ثلاث على مر الاستحقاقات اتفقا: الأولى رفضهما معاً هراوي عشية انتخاب الرئيس رينه معوض عام 1989، والثانية تكرار معارضتهما له أمام نائب الرئيس السوري عبدالحليم خدام بعد اغتيال الرئيس المنتخب. بيد أن القرار كان لدمشق. توافقا أيضاً عام 2008 على انتخاب الرئيس ميشال سليمان.
قبل الوصول إلى الاستحقاق الحالي، ثمة تمرين رياضي تمرّس عليه جنبلاط: أن يكون له في معظم الاستحقاقات عشية اتفاق الطائف مرشح ينتمي إلى كتلته أو حزبه، بيد أنه خارج سرب المرشحين الطبيعيين وأولئك الموصوفين بالجديين المحتملين. ثم لا يلبث أن يسحبه: الأول عام 1988 أنطوان الأشقر عشية نهاية ولاية الرئيس أمين الجميل وغداتها. فارق غرابة المجازفة أن منافسيْ الأشقر هم مرشحو التحدي المرفوضون من هذا الفريق أو ذاك، الرئيس سليمان فرنجية والعميد ريمون إده وقائد الجيش آنذاك ميشال عون، إلى أسماء أخرى. في استحقاق 2014 رشّح النائب هنري حلو في الجلسة الأولى في 23 نيسان في مواجهة مرشحيْ التحدي عون (المعبَّر عنه يومذاك بالورقة البيضاء) ورئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع قبل أن يُخرج نفسه من السباق. في الاستحقاق الحالي يرشّح الزعيم الدرزي شبلي الملاط ابن صديق والده، وجدي الملاط الرئيس السابق للمجلس الدستوري، وقبل ذلك الوزير المسمّى من كمال جنبلاط في حكومة الرئيس رشيد كرامي عام 1965.
أما في الاستحقاق الحالي فإن الحليفين اللدودين، برّي وجنبلاط، على طرفيْ نقيض. ما يُسمع أو يُنقل عن كل منهما لا يشي، حتى الآن على الأقل، بسهولة وصولهما إلى موقف واحد من انتخاب الرئيس.
ما يسمعه زوار رئيس المجلس الآتي:
– حظوظ مرشح الثنائي الشيعي «متقدمة خلافاً لأي اعتقاد آخر».
– ليس في وارد الدخول في حوار مع أي فريق حيال ترشيح سليمان فرنجية أو التفكير بالتخلي عنه أو سحبه. ليس ثمة قدامٌ أمام فرنجية. وجّه برّي مرتين على التوالي دعوة إلى حوار على انتخاب الرئيس ولم يكن قد جهر بترشيح فرنجية، فلم يُستجب. مذ قال إنه مرشحه ومرشح الثنائي، أغلق صفحة الحوار نهائياً ولم يعد يرى أي جدوى منه بعد اليوم. يعدّ رئيس المجلس نفسه تجاوزه أخيراً.
– «الذي يملك الأقل يعطي الذي يملك الأكثر». معادلة جديدة لبرّي من الآن فصاعداً. بات الأفرقاء جميعاً، كلٌ على حدة يعرف حجمه في جلسة الانتخاب. الجلسات الـ11 السابقة أظهرت تقدّم مؤيدي فرنجية على معارضيه. مسار اللعبة الديموقراطية في نهاية المطاف انضمام أصحاب الأصوات الأقل إلى أصحاب الأصوات الأكثر.
– لا يزال برّي متمسكاً بفكرة أن الجلسة الوحيدة التي يحدد موعدها هي التي تنتخب الرئيس فحسب، لا أن تكون على صورة الجلسات المنصرمة حتى 19 كانون الثاني. تالياً على الفريق الآخر الاتفاق على مرشح ينافس فرنجية، وتكون الكلمة للاقتراع عند التئام المجلس.
في مقلب معاكس تقيم وجهة نظر جنبلاط تبعاً لما ينقل عنه:
– إصراره على التصويت ضد فرنجية إذ يبصر في انتخابه عودة الرئيس السوري بشار الأسد إلى الاضطلاع بدور في لبنان. بذلك يدرج جنبلاط الاستحقاق في سياق معركة الحؤول دون عودة الدور السوري إلى لبنان.
– من غير أن يفصل بين الاستحقاق الرئاسي والمغزى المستخلص من القمة العربية في جدة، أنها أقرب ما تكون إلى ما حدث في تشرين الأول 1976 في الرياض ثم القاهرة بتشريع قمتين عربيتين دخول سوريا إلى لبنان بتفويض عربي وأميركي. بعد 47 عاماً يستعاد المشهد نفسه.
– لا بديل من التسوية المتكافئة في انتخاب الرئيس. ما يقوله جنبلاط إنها ليست طرحاً طارئاً أو مستجدّاً أخيراً. قال بها دائماً بما في ذلك حين وقوفه إلى جانب النائب ميشال معوض قبل أن يتيقن من رفض الفريق الآخر له. ذلك ما ينطبق على فرنجية، دونما أن يهمل الزعيم الدرزي «ذكريات عروبة» جد فرنجية، الرئيس السابق للجمهورية وبيته السياسي. جهر بخروجه من الاصطفاف المحيط بمعوض وأفقده تبعاً لذلك أصوات كتلته الثمانية بعد 11 جلسة، من دون أن ينضم إلى ترشيح فرنجية. على غرار ما فعل في 2 آب 2009 عندما خرج من قوى 14 آذار من دون الانضواء في قوى 8 آذار، يسترجع جنبلاط الموقع نفسه بين الطرفين. طرحه ملاط، سواء فُسِّر على غرار ترشيحه قبلاً الأشقر وحلو أو يُكسبه جدية، يعكس به مواصفات الرئيس المطابقة لمواصفات التسوية التي تستبعد كليْ الاسمين المتداولين الآن، فرنجية ومعوض أو مَن يشبهه.
قد يكون أفضل، وربما أيضاً أصعب وكذلك أكثر كلفة، ما يعبّر عن الحليفين اللدودين اللذين دارت من حولهما العقود الأربعة الأخيرة في تاريخ لبنان، أن تباينهما وخلافاتهما حتى، تقيم في صلب اتفاقهما.