هل التمايز الذي يظهره رئيس مجلس النواب نبيه بري عن حليفه “حزب الله” وحليف حليفه العماد ميشال عون حيال ملفّي التعيينات الأمنية والعسكرية وعرسال وجرودها هو افتراق حاد كما يصر فريق 14 آذار على الترويج له والبناء عليه، أم إنه في العمق لعبة توزيع أدوار متفق عليها مع الحزب تتيح له الاستفادة من هامش مناورة في قضايا عدة، وفق ما تتحدث عنه دوائر في قوى 8 آذار؟
السؤال طرح بالحاح أكثر حرارة في أعقاب الموقف الذي اتخذه وزراء حركة “أمل” في الجلسة الأخيرة لمجلس الوزراء من هذين الملفين، والذي بدا مغايراً لمواقف حلفائه، وهو موقف أتى تتويجاً لمسار سياسي متمايز لبري بدا أحياناً ينحو نحو الوسطية وأحياناً أخرى يجنح نحو مواقف “تيار المستقبل”.
الواضح أن “حزب الله” لا يتعاطى اطلاقاً مع تمايز مواقف بري على أساس أنه بداية افتراق ورغبة في التغريد ضمن سرب آخر، بل هناك تفهم لدى الدوائر المعنية بالأمر في الحزب لهذا النهج المختلف في إدارة الأمور الذي ينتهجه بري ليس حيال الملفين المستجدين اللذين باتا يضغطان بشدة على الحكومة والوضع السياسي والأمني عموماً فحسب، بل إن الحزب يتفهم هذه “البرودة” غير المعتادة التي اعتصم بها رئيس المجلس منذ اشتعال فتائل الأزمة في الساحة السورية، واستطراداً منذ ولج الحزب تحت شعارات شتى الميدان السوري وصيرورته رقماً صعباً فيه، ثم منذ فتحت قيادة الحزب أبواب منازلة سياسية – اعلامية مع الرياض في أعقاب الحرب في اليمن.
وترك للرئيس بري هامش مناورة سمح له بالابقاء على جسور علاقة مع الفريق الآخر، واستتباعاً مع الرياض، وأمّن له تبايناً مع العماد عون حول كل الملفات وضمن له ادارة هادئة للتعقيدات المتناسلة.
بفعل تجربته السياسية المديدة والعميقة، يدرك بري، ولا ريب، عمق المأزق الذي يعيشه الأقليم ويعي كمَّ التداعيات الملقاة على عاتق الساحة اللبنانية وحجم الترابط بين الأمرين وصعوبة الفصل بينهما وإن شاء البعض.
لذا فان عارفين بشؤون عين التينة يطيب لهم أن يتحدّثوا عن قاعدة ذهبية متقنة اتبعها بري في التعامل مع المستجد من القضايا والملفات المتراكمة وجوهرها: العمل على معالجة واقعية لأي قضية ذات طبيعة محض محلية ونزع الصاعق اذا كان ثمة قضية ذات منشأ اقليمي.
وبناء عليه فان اولئك العارفين يتحدثون عن ثلاث ثوابت درج بري على اتباعها حيال القضيتين الضاغطتين (التعيينات الأمنية وجرود عرسال) وهي:
– رفع شعار التعيين لملء الشغور في المراكز الأمنية مع اللجوء الى خيار التمديد اذا تعذر ذلك.
– الابقاء على علاقة مميزة مع قائد الجيش العماد جان قهوجي وتقديم أقصى درجات الدعم والاسناد المادي والمعنوي للمؤسسة العسكرية والمسارعة الى الدفاع عنها بشكل شرس، حتى إن الخطاب السياسي لقيادات “أمل” يكاد ينطوي على لازمة شبه حصرية وهي الاشادة بدور الجيش.
– اما في موضوع عرسال فقد حرص بري على اتباع سياسة دقيقة عنوانها العريض اشراك “تيار المستقبل” في ايجاد حلّ لقضية هذه البلدة من جهة، ودعم مطلق لخطوات الحزب واندفاعته الحاسمة لـ”تحرير” جرودها من كل المجموعات الارهابية، حتى بات الأمر ثابتاً في خطاب بري اليومي، لا سيما بعد اعتباره تحرير الجرود أمراً معادلاً في أهميته ووطنيته لقضية تحرير الارض المحتلة في الجنوب.
انها إذاً معادلة دقيقة، عنوانها عدم قفل الأبواب مع أي جهة مع التمسك بتوجه جاذب للقاعدة المشتركة لحركة “أمل” و”حزب الله”، خصوصاً بعدما نجح الحزب في المضي قدماً في حملته الاعلامية – السياسية المنسَّقة مع “التيار الوطني الحر” تحت عنوان وجوب طرد الارهاب المنتشر على الارض اللبنانية، مما أحرج الجميع وفي مقدمهم “تيار المستقبل” نفسه.
وبحسب أولئك العارفين فان بري ينطلق في سلوكه السياسي المميز هذا من حسابات ومنطلقات عدة، أبرزها:
– ان هذا التفرد في المواقف يؤمن له مساحة من حرية الحركة والحضور.
– ان بري يقيم على قناعة فحواها أن الطرفين الأساسيين أي “حزب الله” و”المستقبل”، ورغم خوضهما غمار هذه الملفات المتفجرة وهذا المستوى العالي من التساجل بينهما، إلا أنهما ما برحا يرغبان في الحفاظ على مؤسسات التواصل أي طاولة الحوار والحكومة مقرونة بالحيلولة دون العودة الى مرحلة القطيعة السابقة.
وبري في هذا السياق يبدي من جهة شراسة في الدفاع عن الحكومة والحيلولة دون فرط عقدها، ويعرب من جهة أخرى عن ثقته باستمرار الحوار الذي ينعقد برعايته.
– إن بري الذي على دراية بمآل ما بلغه الصراع والتجاذب بين الرياض وطهران وشموله ساحات عدة، ما برح يراهن ضمناً على أن لكلتا العاصمتين تريدان الحفاظ على قدر من الاستقرار ومستلزماته بين مكونات الساحة اللبنانية. لذا فان ثمة مقربين منه يتحدثون عن انه ينتظر عودة الرئيس تمام سلام من السعودية ليعرف مسار رياح الأمور في لبنان ويبني على الشيء مقتضاه.
– إن بري وإن كان لا يكتم أمر تبايناته المتعددة مع العماد عون، فإنه ما برح يتحدث في مجالسه عن أن لقاءه مع عون يظل استراتيجياً مهما بلغت الخلافات بينهما.
ومهما يكن من أمر فان بري مضطر دوماً الى بذل جهد يومي بغية الحفاظ على هذا الموقع الذي يسمح له بالابداع السياسي حيث يتعين ويتيح له المراوحة حيث يجب.
وفي كل الأحوال، إن الحزب مطئمن دوماً الى أن بري يعرف حدود اللعبة ولا يمكن أن يتخطاها.