نجح رئيس مجلس النوّاب نبيه في جمع أفرقاء طاولة الحوار يوم أمس، في خطوة تهدف إلى احتواء الموقف المتفجّر في البلد، جرّاء العجز الحكومي الناجم عن التعطيل المتعمّد للحلول الممكنة والإيغال في سياسة شلّ المؤسّسات الدستورية، بعد إفراغ رئاسة الجمهورية من رأس الدولة.
أكثر الحاضرين توتّراً كان النائب ميشال عون، الذي أراد استثمار تظاهرته على الطاولة، واستعراض عضلاته المنفوخة بجمهور «حزب الله»، فاتحاً «الردّة» بالحديث عن رئيس الجمهورية «القوي»، فكان الرئيس فؤاد السنيورة له بالمرصاد، وتولّى النائب بطرس حرب إسكاته بردٍّ من العيار الثقيل، ليتدخّل الرئيس بري لوقف عنتريات عون وللحد من السجال الدائر.
الرئيس بري أكد خلال الجلسة أنّ مجرّد انعقاد الحوار يعبّر عن النجاح في تأكيدنا الالتزام بأنّه السبيل الوحيد للخروج من الأزمات، قائلا: كان لا بد من هذا الاجتماع من أجل خلاص وطننا من حالة الجمود الراهن حتى لا نعثر على وطننا في مكب التاريخ. وبعبارة أخرى يقول بري: إن الحوار هو الطريقة المتاحة لتجنب انزلاق البلد إلى صدام سياسي – أمني من المرجّح أن يؤدي هذه المرّة إلى انفلات الزمام، وإلى خراب الهيكل على رؤوس الجميع.
في هذه الأثناء، لا تزال هوية وتوجّهات منظّمي التظاهرات تُثير التساؤلات والريبة والهواجس، وتمنع فئات واسعة من اللبنانيين من النزول إلى الشارع، رغم أحقية المطالب التي تطرحها المجموعات الناشطة، رغم اتساع الفئات والأطياف المتضرّرة من الفشل الحكومي الذريع، وتداعياته على الحياة اليومية للمواطنين.
ومن الواضح أنّ الطيف اليساري هو المسيطر حتى الآن على منظّمي الحراك في بيروت، رغم انخراط أعداد منهم في برامج التدريب الأميركية التي شملت نواحي لها ارتباط بحقوق الإنسان والديمقراطية وغيرها.. وهنا يبرز سؤال كبير:
إذا كان اليسار بحزبه الشيوعي ومتفرّعاته المدنية والاجتماعية في وضعية انعدام الفاعلية ضمن اللعبة السياسية، وهو غير قادر على تجديد نفسه بالمعنى الفكري والسياسي، بل هو يتخبّط في البحث عن هوية لن يكون ممكنا إعادة تشكيلها بعد سقوط الشيوعية في معقلها وانهيارها بانهيار الاتحاد السوفياتي.. أمام هذه الحال: كيف يمكن المراهنة على مجموعة هامشية لا تستطيع استقطاب الحد الأدنى من الإجماع عليها، كي تقوم بالتغيير الأكثر خطورة وعمقا في التاريخ اللبناني الحديث؟؟ لا شك في أنّ التظاهرات استطاعت أن تهزّ استراحة الطبقة السياسية تجاه فشلها، إلا أن المنظمين يعانون انقسامات واضحة ويواجهون تساؤلات حول حقيقة توجهاتهم السياسية اللاحقة:
فهل نحن أمام مجموعة علمانية متطرّفة تريد إعادة لبنان إلى تجارب هوت وسقطت مثل تركيا (أتاتورك) وتونس (زين العابدين بن علي).. أم إنّنا أمام طرح يحمل المواطنة باعتبارها منطلقا للمساواة والعدالة والحفاظ على تنوّع الصيغة اللبنانية، على المستوى الديني والثقافي والاجتماعي؟!
برزت بعض النتوءات الخطرة في خلفية بعض منظّمي الحراك، وبرز استهتارهم وغلوّهم في التعرّض للقيم الدينية الإسلامية والمسيحية على السواء، وهذا مؤشر مقلق، لأن المطالب التي يلتقي عليها اللبنانيون لجهة الملفات الحياتية العالقة، هي ملفات جامعة، لا تتحمّل إثقالها بأجندة سياسية، لا يستطيع القائمون على التظاهر، حتى الساعة، تقديم رؤية واضحة لها.
ليس المطلوب طبعا تحويل التظاهر إلى مساحات طائفية أو مذهبية، ولا أنْ يغرق في صراع الأولويات، بل المفروض تنزيه التحرّكات الشعبية عن الانغلاق الفكري والسياسي، وإعطاء التطمينات لعموم اللبنانيين بأنّ ما يحصل في الشارع هو لتحقيق مصلحة الجميع، وليس مجرد استخدام لشعارات واقعية لأهداف خاصة وربما لا تصب في النهاية في المصلحة العامة.
يتذكر الجميع أنّ التحرّكات في مصر بدأت بناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي، ثم انتهت باختفاء هؤلاء تماما عن المشهد لأن الصراع السياسي يستطيع إخراجهم من المعادلة إذا لم يكونوا متجذّرين بخياراتهم الشعبية وفاعلين وقادرين على التغيير في قاعدة واسعة من المواطنين. يستفيد المتظاهرون حاليا من نقمة كبيرة على الحكومة المشلولة بفعل سياسات «حزب الله» وتسلّط حليفه النائب عون على الدولة بحجج مختلفة خلاصتها موقع لصهر وحلم بكرسي بعبدا، لكن هذا لا يكفي للاستمرار في تشكيل حالة سياسية حقيقية تسهم في بناء حصانة اجتماعية في وجه الفساد وتسلّط السلاح غير الشرعي على حياة العامة في البلد.
وقف الرئيس بري في جلسة الحوار الأولى بين الألغام، وهو القابض على جمر تحالف مكلف مع «حزب الله» في الداخل، والواقف على شفير انفجار اجتماعي مخيف لم يسبق أنْ شهده لبنان منذ عقود.. يطيل بري فتيل الانفجار، ويمدّد في عمر الأزمة، لعلها تنفرج بعد اشتداد، فهل نشهد الانفراج.. أم ننزلق نحو الانفجار؟؟؟
* رئيس هيئة السكينة الإسلامية.