سياسة في الواجهة
مجدداً يعيد الرئيس ميشال عون الى الواجهة الحاجة الى الحوار مع سوريا لحل ازمة النزوح. للمرة الاولى يطرق الموضوع من باب مختلف، اذ يحذّر من احتمال الوصول الى ما لا يزال المجتمع الدولي يرفضه: الحوار مع «الدولة السورية»
مع ان تفاقم المأزق النقدي والاشارات البالغة السلبية الى مزيد من تدهوره يحجبان اي اهتمام آخر، بيد ان الموقف الذي اطلقه رئيس الجمهورية ميشال عون من الامم المتحدة، في 25 ايلول، مرشح الى مزيد السجالات الداخلية. لم يفصل الرئيس تماماً بين ذلك المأزق وازمة النزوح السوري التي ادرجها، اكثر من مرة، في اسباب جوهرية للتردي الاقتصادي والصعوبات التي يجبهها لبنان. على ان الموقف الجديد، من منصة نيويورك، خطوة متقدمة في ما قد يعتزم لبنان الاقدام عليه كأحد آخر الخيارات المتاحة امامه لمحاولة ايجاد حل لمشكلة النزوح، وإن في معزل عن الامم المتحدة، الشريك المفترض في مواجهتها.
رد فعل رئيس مجلس النواب نبيه برّي على موقف عون، كان الاول والسبّاق. ما يرويه برّي انه كان يستمع في ذلك اليوم الى خطاب رئيس الجمهورية ابان استقباله المنسق المقيم لنشاطات الأمم المتحدة في لبنان فيليب لازاريني، قبل ان يسارع الى القول لزائره: «على الامم المتحدة ارسال المساعدات الى السوريين في داخل سوريا». ثم سأل امامه: «لماذا لا يجرى حوار مع سوريا؟».
يصف بري خطاب عون بأنه «جيد، وانا معه في موضوع النازحين والحوار مع سوريا. هذا موقفي من قبل اعلنته مراراً، واعيد الآن تأكيده».
لا يرى رئيس المجلس بدّاً من الحوار بين الحكومتين اللبنانية والسورية، مع تشديده على طرح الموضوع في مجلس الوزراء. يقول: «في مجلس الوزراء آلية للتصويت. الخلاف على الحوار مع سوريا متوقع، وفي احسن الاحوال اذا استمر بين مَن يريده ومَن لا يريده يُحتكم الى التصويت. اتفهّم موقف رئيس الحكومة في الرفض، وهو حقه، وله ان يتحفظ، ومن غير الضروري ان يقود هو الحوار مع الحكومة السورية. في الامكان ان نعهد في الامر الى وزراء يحاورون نظراءهم السوريين. الا ان المطلوب ايجاد حل لمشكلة النزوح، والافضل هو التحدث مع الحكومة السورية».
مع ان برّي يقدم مخرجاً لسجال مفتوح حيال العلاقة مع سوريا منذ عام 2011، تاريخ اندلاع الحرب فيها، ولا يزال مستمراً رغم تعاقب اربع حكومات، اثنتان منها برئاسة الرئيس سعد الحريري، الا ان الخلاف على هذا البند لا يزال على حماوته منذ مطلع العهد الحالي. يقع في صلب تباين حقيقي وجدي بين رئيسي الجمهورية والحكومة، غير قابل للتذليل بالسهولة المتوقعة، نظراً الى ان كلا منهما يقارب علاقته بنظام الرئيس بشار الاسد على نحو شخصي، يختلط فيها العام بالخاص. غير ان هذا الخلاف وتشبّث الحريري برفض اي تواصل مع نظام الاسد، واي قرار تتخذه حكومته في هذا السياق، لم يمنع دوران الحوار بين البلدين على نحو جزئي: امني بداية عبر قناة المدير العام للامن العام اللواء عباس ابراهيم منذ ايار 2012، ثابر عليه من ثم حتى الوصول الى العهد الحالي واضحى اكثر حيوية، ثم وزاري مع ذهاب وزيري حركة امل وحزب الله غازي زعيتر وحسين الحاج حسن الى دمشق في آب 2017، من بعدها زيارة ثانية بعد اشهر لزعيتر والحاج حسن في ايلول 2018 مع وزيري تيار المردة يوسف فنيانوس والطاشناق افيديس كيدانيان.
في هاتين المرتين، من غير ان يكون في وسعه منعهما، اكتفى الحريري بادراج الزيارتين في نطاق «غير رسمي»، من غير ان تكونا بالفعل كذلك. الا انهما كرّستا ايضاً الخلاف بينه وثنائي حزب الله – حركة أمل. لم يسع الحريري، رئيس اولى حكومات العهد، منع الوزير جبران باسيل من الاجتماع بوزير الخارجية السوري وليد المعلم في نيويورك في ايلول 2017، ابان وجود رئيس الجمهورية فيها، بناء على طلب الوزير السوري. كذلك لم يشأ الحريري يوماً اثارة غبار من حول زيارات دورية للوزير بيار رفول في الحكومة السابقة لدمشق ونقل رسائل متبادلة. بذلك بدا هذا الملف برمته مذذاك بين يدي رئيس الجمهورية وحده.
عزز وجهة نظر عون الدور الايجابي والمساعد الذي اضطلع به الجيش السوري ابان تحرير الجرود عام 2017
في المرتين الاولين، ايلول 2017 وايلول 2018، من مشاركته في الدورة السنوية للامم المتحدة تحدّث عون عن النزوح السوري، حاضاً المجتمع الدولي على مساعدة لبنان على جبه اعبائه وتفهّم وجهة نظره من العودة الآمنة للنازحين، مميّزاً اياها عن العودة الطوعية، ومشدداً على اهمية دعم المجتمعات المضيفة كما النازحين، بالتزامن مع دعوته الى استعجال الحل السياسي للحرب السورية. في المشاركة الثالثة اخيراً فتح باباً جديداً غير مسبوق في تخاطبه مع الامم المتحدة، عندما تحدّث عن احتمال اقدام لبنان على «الحوار مع الدولة السورية»، على نحو اوحى بتجاوزه مفهوم العودة الآمنة التي تمسك بها لبنان في السنوات المنصرمة، وكانت ذروة ما يطمح اليه لبنان، وابرز نقاط خلافه مع منظمات دولية معنية وحكومات مهتمة فضّلت، في تبرير مفهومها للعودة الطوعية، انتظار الحل السياسي اولاً.
اكتسب موقف رئيس الجمهورية اهميته من المنصة التي اطلقها منه، اذ خاطب الدول التي باتت تقف على طرف نقيض من لبنان حيال معالجة ازمة النازحين وعدم استعجال حلها. وهو بذلك دفع بالمشكلة الى بُعد جديد قد لا يسهل بالضرورة الوصول الى تفاهم عليه في الداخل اللبناني نظراً الى حدة الانقسام من حوله. مغزى ما قاله ان الطرف الوحيد القادر على ايجاد حل لمشكلة النزوح هو النظام السوري نفسه، وليس المجتمع الدولي ولا حتماً المنظمات الدولية المعنية، بعدما كان ردد قبلاً، اكثر من مرة، بأن لديه تأكيدات من نظيره السوري بالتعاون معه لإنجاح عودة مواطنيه. اكد الموقف نفسه تكراراً اللواء ابراهيم الدائم التواصل مع نظرائه المسؤولين الامنيين السوريين، في ملفات تجاوزت منذ عام 2012 ما يرتبط حصراً بمشكلات النزوح، ثم قبل سنة بتنسيق عودة قوافلهم. ارتبطت الملفات الاخرى بما بات يوازي في اهميته يوميات النزوح عبر اطلاق موقوفين عرب او اجانب في دمشق، او تبادل معلومات امنية عن شبكات ارهابية. ثمة ما عزز وجهة نظر رئيس الجمهورية في الحاجة الى التواصل المباشر والرسمي والعلني مع الحكومة السورية، هو الدور الايجابي والمساعد الذي اضطلع به الجيش السوري ابان حرب عرسال التي قادها حزب الله صيف 2017 ثم من بعدها حرب جرود رأس بعلبك التي قادها الجيش اللبناني.