يشكو لبنان الرسمي والشعبي من سنوات الشحايح حيث يكون معدل المتساقطات أقل بقليل أو بكثير، من معدلاتها العامة. وفي السنوات التي تفيض أمطارها بمياه غزيرة، فإن لبنان لا يفعل شيئاً لجمعها وتخزينها لاستخدامها في زمن الشح والقلة. وعندما تمنح الطبيعة لبنان فيضاً من الأنهار والينابيع والمياه الجوفية الصافية والنقية والرقراقة، فإنه يسارع الى إغراقها بالتلوث ويحولها الى مكب للنفايات ومجارير الصرف الصحي ومخلفات المرامل والكسارات والنفايات الصناعية الكيميائية أو السامة! ويحدث أحياناً في هذه الدولة اللبنانية، الغارقة في الفساد والتحاصص والتناتش وهدر المال العام وسرقته، أن يتم اقرار مشروع مفيد بانشاء سد ما للمياه يعود على منطقة معينة بالفائدة المباشرة، وعلى لبنان بالفائدة غير المباشرة، فينقسم اللبنانيون الى قبائل وعشائر وشيع متناحرة ومتشاكسة ومتعاكسة، منها من يدافع عن السد كنعمة من السماء والأرض، ومنها من يعارضه بقوة وشراسة وكأنه كارثة أو عار يحل بالمنطقة وبلبنان! وهكذا يتحول العلم والهندسة والاختصاص والتكنولوجيا الى وجهة نظر، بين فريقين هما كخطين متوازيين ولا يلتقيان!
كما في الطبيعة، كذلك في السياسة. وفي الأصل قام لبنان المستقل على أساس ميثاق وطني غير مكتوب، كوطن متعدد الثقافات ومتنوع بمصادره الحضارية، ويعتمد النظام الديموقراطي البرلماني، وله دستور مكتوب تعفف وأحجم عن ذكر الطائفية، واعتبر الآباء المؤسسون في ميثاقهم غير المكتوب ان الطائفية حالة موقتة في مرحلة الانتقال من الانتداب الى الاستقلال، ولا بد أن تنصهر بالممارسة الصحيحة والسليمة، من خلال التكامل والتضامن الوطني… وتم التوافق على أن لبنان يحلق بجناحيه المسلم والمسيحي، ولكنه يحتفظ بوحدته ككائن كامل ومتكامل في تكوينه الأصلي العربي. وما حدث في الممارسة العملية الخاطئة والأنانية والجشعة أن تحول لبنان الى طوائف، والطوائف الى مذاهب، والمذاهب الى أحزاب، والأحزاب الى كيانات مستقلة لها مساحتها الجغرافية. ولها هيكليتها، برئيسها ومجالسها التشريعية والتنفيذية، وبسفرائها، وتحالفاتها، وقواتها المسلحة، وسياساتها الداخلية والخارجية الخاصة بها، وبدستورها أيضاً!
عندما تخلص أخيراً لبنان من ميثاقه الشفهي، وتحول الى ميثاق مكتوب وانبثق عنه دستور جديد الطائف، بعد حرب داخلية طويلة ومدمرة، كانت الدولة اللبنانية المعترف بها دولياً، قد تحولت الى كيان هش وهياكل فارغة، بالمقارنة مع المكونات الشعبية التي تحول كل منها الى دويلة قائمة بذاتها، وتحالفت كلها على تهميش الدولة وتقاسمها، وعلى نبذ الميثاق المكتوب والاستنساب في تطبيقه مجتزأ، وتحول كل شيء في الدولة والمجتمع الى وجهة نظر بين مكونات لكل منها وجهة نظرها التي لا تتقاطع جميعاً عند أية نقطة واحدة مشتركة…
هذا هو اللغز الذي يواجهه الرئيس نبيه بري في جلسات الحوار المحورية في ٢ و٣ و٤ آب/ اغسطس المقبل… هو لغز مكونات وطن لا يلتقي مجموعها عند نقطة واحدة في أي شيء حتى في قضايا الحياة اليومية وحتى الفرعية منها… فكيف ستلتقي حول قضايا جوهرية مثل ملء الشغور الرئاسي، وقانون انتخاب جامع، وحكومة فاعلة، ودستور محترم، وقانون نافذ، وحكم نزيه وطاهر؟!
… وحلّ اذا كان فيك تحلّ!