بين شارع وآخر، يصبح مفتاح الحلّ للأزمة الحكومية الراهنة، مفقوداً بالكامل، وتصلّب الشوارع كما هو حاصل حاليّاً، يضيّع المفتاح نهائيّاً ويُفقِد الأمل بالعثور عليه، فكلّ شارع يملك مفتاحه لحلٍّ يناسبه، ويلبّي مصلحته وحده، وينسف منطق الشارع الآخر، برفع مطالبه وشروطه إلى ما فوق السقف العالي، ووضع مكعّبات اسمنتية ضخمة يستحيل تحريكها،في طريق أيّ حلّ.
الشارع تحرّك مطلبياً لأكثر من أسبوعين، والقى في ايدي القيمين على السلطة التنفيذية حقيقة موجعة بأنه لم يعد لديه شيء يخسره، وأكّد بحراكه انّه لم يعد ممكناً الاكتفاء بسياسة التخدير، او التهويل، او محاولة احتواء حراكه بالترقيع. وقال انّ الفرصة متاحة اليوم للتغيير، وما يمكن ان يكون ممكناً اليوم قد يصبح مستحيلاً اذا ما ظلّت السلطة مغمضة عينها عن مكمن الداء الذي آلم كلّ اللبنانيين وما يزال.
استقالت الحكومة، ثمّة من افترض انّ المواطن حقّق نصراً أوليّاً بذلك، وانتظر ان تلي الاستقالة خطوات ملموسة تجعل هذا النصر كاملاً، ولا تبقيه ناقصاً بلا تقريش حقيقي، فإذا بالشوارع السياسية تتحرّك كلّ بحسب هواه، الى ان استقرّت في نهاية المطاف، على شارع يحشد لمنطق حكومة جديدة بلا جبران باسيل، مع استعجال استشارات التكليف، يقابله شارع آخر يردّ بمعادلة جبران مقابل الحريري، ويرى التكليف المسبق أنّه يمنح الحريري قبل الاتفاق على التأليف سلاحاً إضافياً في مواجهتنا.. وبين هذين المنطقين يبقى موعد الاستشارات الملزمة لتكليف رئيس الحكومة الجديدة معلّقاً الى أجل غير مسمى. فيما الشارع المطلبي يبدو تحرّكه الموازي لتلك الشوارع في الآونة الأخيرة أشبه بالتذكيري وإثبات الوجود.
هذا الجو المعقّد، والمفتوح على تعقيدات أكبر ما لم تحصل معجزة تفكّها قبل تفاقمها، هو ما كان يحذّر منه رئيس المجلس النيابي نبيه بري، منذ ما قبل مبادرة الرئيس سعد الحريري الى إعلان استقالته: «هذا المشهد المعقّد، كان ماثلاً امامي، ورفعت الصوت لتداركه، وبذلت أقصى ما أمكنني من جهد مع الرئيس الحريري، لإقناعه وثنيه عن الاستقالة لئلّا نقع في محظور قد لا نستطيع احتواءه، ولكنه مع الاسف لم يسمع مني، ما دفعني الى ذلك قناعتي بأنّ الضرورة، وامام تحرّك الناس في الشارع، تحتّم الاستمرار في تحمّل المسؤولية وسماع مطالب الناس والاستجابة إليها بالشروع فوراً في خطوات جدية وملموسة».
أمّا وقد حصل ما حصل، يقول بري، فلا بدّ من التمعّن مليّاً بمشهد البلد، الوضع في منتهى الحساسية والدقّة، ولا يحتمل ابداً، صار على الجميع ان يقتنعوا بانّ مطرقة اقتصادية ضخمة وقاسية فوق رؤوسنا جميعاً، وانّ المطلوب في موازاة هذا الوضع هو العجلة ثمّ العجلة ثمّ العجلة في تشكيل الحكومة، علماً انّ تشكيل الحكومة بحدّ ذاته، وعلى أهميته وضرورته، لا يشكل الحل للازمة، بل هو جزء بسيط منه، ذلك انّ حلّ هذه المشكلة يبدأ بعد تشكيل الحكومة، ومع العمل الدؤوب الذي ينتظرها، وفي الاعلان الفعلي لحالة الطوارئ الاقتصادية توصّلاً للحلول المطلوبة والسريعة قبل ان تسبقنا الازمة ولا نستطيع ان نلحق بها».
أما شكل الحكومة المقبلة، وعلى ما يقول بري، فبالتأكيد يتطلب تفاهماً، إن على شكلها، أو حجمها، من حكومة 14 او 16 او 18 او 24 وزيراً، وهو إذ ينعى فكرة حكومة «تكنوقراط»، يرى انّ الحكومة المختلطة قد تكون لها المقبولية اكثر من ايّ شكل حكومي آخر، وفي ايّ حال كلّ ذلك رهن بالتوافق.
ولكن بصرف النظر عن شكل الحكومة أو حجمها، يؤكد بري «ضرورة تمثيل الحراك الشعبي في الحكومة الجديدة»، ويقول: قلت وأجدّد القول انّ الحراك الشعبي يجب ان يتمثل في الحكومة».
ولكن ايّ حراك، يقال لبرّي، وخصوصاً ان الشارع أفرز الواناً متعددة لهذا الحراك؟ فيجيب : «الحراك الصادق الذي قدّم مطالب كلنا مؤمنون بها، ومعهم الحق فيها، وليس الحراك الذي أخذ يشتم الناس ويهينهم».
وعندما يُسأل بري: من حصّة ايّ طائفة سيتمّ تمثيل هذا الحراك؟ يسارع الى القول: «فليخلقوا طائفة جديدة اسمها طائفة الحراك، وليعتبروهم طائفة جديدة، بعيداً عن الواقع الطائفي المتحكّم بنا. بل ليعتبروهم لا طائفة، هل يستطيع احد ان ينفي انّ كثيرين من اللبنانيين يطالبون بحذف المذهب والطائفة عن هويّاتهم»؟
وهنا، يتابع برّي، «أريد أن أسأل متى سننتهي من منطق الطوائف، انا لم أُنادِ بالدولة المدنية عن عبث، بل بناء على الدروس القاسية والتجارب المريرة والنتائج الاقسى التي منينا بها جرّاء المنطق الطائفي، وأجدّد القول انه صار لا بدّ لنا من ان نتوجه الى الدولة المدنية، وهنا اشير الى انّ الجميع صار ينادي بها، رئيس الجمهورية تحدث عنها، ورئيس الحكومة ايضاً، وكلّ الناس تقول بالدولة المدنية، ومن هنا انا على يقين اننا إن لم نتوجه الى الدولة المدنية، فكلّ هذا الحراك الذي حصل سيكون بلا ايّ قيمة.
كما أؤكد، يضيف بري، انّه لن يكون هناك إصلاح، او مراقبة فساد، ومحاسبة فاسدين، الّا عندما ننتهي من الطائفية. هذا الوباء الذي يصيبنا منذ عام 1943 وحتى اليوم يجب ان ننتهي منه، ومع الأسف عندما نجد انّ فلاناً مرتكباً، ومضبوطاً بالجرم المشهود، وعندما تأتي لتحاسبه، تصبح وكأنك تحاسب طائفته، إن بقينا على هذا الحال لن تقوم لنا قائمة، واذا كان ينفع التذكير، فلقد سبق لنا ان قمنا بمجازفات لعلّ العالم يقتدي بها، وأحلنا نواباً ووزراء (حركيين) على القضاء وطردناهم، ولكن لم يعبأ احد، ومع الأسف كنا وحدنا، لذلك اجدّد القول ان لا حلّ الّا بالدولة المدنية.
وفي هذا المجال ايضاً، يقول بري، لا بد لي ان اؤكد انّ ثمّة فارقاً كبيراً ما بين الطائفي والمتديّن، فالطائفي ليس هو المتديّن، دلوني من بين كل الطائفيين والمتمسكين بالطائفية، كم مرة يذهب الى الكنيسة او الى الجامع، انّ المتدين الحقيقي هو اللا طائفي والمؤمن بالدولة المدنية والذي يرى مصلحة لبنان بالدرجة الاولى.
على الرغم من الجو القاتم السائد في البلد، فأبواب المخارج والحلول ليست مقفلة، وفي الإمكان العمل الدؤوب في هذا الاتجاه وتحويل الخط الانحداري في الاتجاه المعاكس، ثمّة خطوات إصلاحية مهمة قد تقررت في الإمكان المضي بها، والموازنة جاهزة، وستبدأ مناقشتها اللجنة المالية بعد انتخاب اللجان النيابية الثلثاء، ولا اعتقد انّ درسها سيستغرق فترة طويلة.
وقيل لبرّي هل ستسمّي الرئيس الحريري لرئاسة الحكومة؟ فيأتي جوابه متسلحاً بمقولة « كلّ أوان لا يستحي من أوانه» ويقول: لا جواب، كلمتنا نقولها في الوقت المناسب.
ثم يتبع ذلك بملاحظة، مفادها انّ ثمّة «تصحيحات» صارت الحاجة ملحّة لأن تدخل على بعض النصوص في الدستور، فرئيس الجمهورية على سبيل المثال مقيّد بمهل لإصدار المراسيم والقرارات، وامّا الوزير فلا، ورئيس الحكومة المكلف ليس مقيّداً بمهلة زمنية لتأليف الحكومة، فيما هو في الوقت نفسه مقيّد بمهلة شهر لتقديم بيانها الوزاري الى مجلس النواب.
وقيل له اخيراً: ثمّة من يسأل لماذا لا تطلّ بكلمة للناس؟ فقال: لن اطلّ الّا اذا كان لديّ حلّ متكامل عبارة عن خريطة طريق تؤدي الى الدولة المدنية.