رمى رئيس مجلس النواب نبيه بري أمس الأول أولى الحصى في بركة الإستحقاق الرئاسي الغارق في الفشل بانتخاب الرئيس. وقد تجلّى ذلك بما تسرّب من عين التينة بقول سيّدها انّ عصر «الورقة البيضاء» قد انتهى، ولن يوجّه الدعوة الى الجلسة الـ 12 قبل ضمان المواجهة التي تسمح ببقاء ثلثي أعضاء المجلس في القاعة ومعهم مرشحيهم وعَقد دورات متتالية حتى انتخاب الرئيس. وعليه، الى أي مدى يمكن توقّع مثل هذا السيناريو؟
قبل اللقاء الذي عقد مساء أمس الأول بين بري ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، خرج أعضاء تكتل «الاعتدال الوطني» من عين التينة بانطباعات مختلفة لم تتوافر لدى أيّ منهم من قبل. فقد سمعوا من رئيس المجلس ان عصر «الورقة البيضاء» قد انتهى وانّ المهزلة ستتوقف، ولن يوجّه الدعوة الى انتخاب الرئيس العتيد للجمهورية قبل تَوافر مجموعة من الأسماء المحصورة التي تضمن للكتل النيابية أن تبقى تحت قبة البرلمان بعد نهاية الجلسة الأولى للانتخاب بأكثرية الثلثين، ووَقف مسلسل تطيير النصاب القانوني تمهيداً للانتقال الى المشاركة في سلسلة من الدورات الانتخابية المتتالية الى أن ينتخب الرئيس.
كان الحوار قد تشعّب بين أعضاء التكتل وبري، وتَوسّع المجتمعون في الحديث عن المأساة المستمرة التي يعيشها اللبنانيون بطريقة لم يعد يحتملها إنسان مهما راهَن القادة والمسؤولون على صبرهم وقدرتهم على التحمّل. وتَشارَك الجميع في تعداد المآسي التي شملت مختلف وجوه حياة اللبنانيين، فالتقوا جميعاً على توصيف سلبي لِما يجري عدا عن الفشل في مواجهة ما انتهت إليه مجموعة الأزمات على أكثر من مستوى.
قادَ الحديث تلقائياً الى الاستحقاق الرئاسي وما يمكن ان يقوم به رئيس المجلس النيابي ليكونوا الى جانبه، فأعضاء التكتل لم يسجّلوا أي اصطفاف بعد بين الذين اعتمدوا الأوراق البيض وبين الداعمين للنائب ميشال معوض، في وقت بقيت الأسماء المتقدمة في الكواليس النيابية والسياسية والحزبية المُتداوَلة خارج صندوقة الاقتراع. فلم يسبق ان انتخب أحد من النواب المرشح سليمان فرنجية، ولم يَرد اسمه سوى مرة واحدة وبصوت واحد في الدورة التاسعة لانتخاب الرئيس. وكذلك لم يرد اسم كل من قائد الجيش العماد جوزف عون أو الوزير السابق جهاد أزعور مرة واحدة على الأقل. ولذلك، بقيت المواجهة مفتوحة ومحتدمة بين مجموعة الأوراق البيض ومعوّض، في مشهد مُملّ طالما أنه لا يمكن ان يؤدي الى وَقف هذه المسرحية المملّة التي زادَ من رتابتها فقدان القوة الثالثة المرجّحة لأيّ من الخيارين الأساسيين.
وعلى وَقع الطرح الجديد الذي قدّمه بري أمام أعضاء التكتل، عَبّر بعضهم عن ترحيبهم به وخصوصاً لجهة الاشارة التي صدرت عنه للمرة الأولى بالتخلي عن الورقة البيضاء، ما يؤدي الى احتمال ان تتخِذ المواجهة المقبلة شكلاً اكثر جدية وواقعية. فالبلاد لم تعد تَتحمّل ما يجري، وباتَ اللبنانيون على شفير الانهيار الكامل والشامل، ولم يَعد هناك أي أمل بإحياء أي من المؤسسات الضامنة لصحة اللبنانيين ولقمة عيشهم. فالتفلّت في أسعار المواد الغذائية والمحروقات في ظل فشل كل أشكال المراقبة والمحاسبة بات يحول دون فتح المدارس والمؤسسات قبل الحديث عن الوزارات والمؤسسات العامة المقفلة وتلك التي كان السجن مسرحاً لمجموعة كبيرة من موظفيها، وان توسّعت مثل هذه الإجراءات الأمنية والقضائية فقد تؤدي الى إقفال مؤسسات رسمية أخرى ليس أقلّها من تلك التي تقدّم الخدمات الحيوية المالية والادارية المحصورة بها.
والى هذه المعطيات توسّعت المطالعات عند مناقشة طرح بري الجديد الى اعتبار البعض انّ ما يجري لم يعد مقبولاً، وأعطوا أمثلة على ذلك بالقول انه لم يسبق لأيّ من النواب من غير المشاركين في الاصطفاف الحاد بين خيارَين أن عَبّروا عن النية بالخروج من المعادلة السلبية التي تَحكّمت بالجلسات الـ11، وإن كان بعضهم عاجزاً عن التغيير قيد أنملة في مثل هذه المواجهة، خصوصاً عندما تَمادى عدد من النواب من كتل مختلفة ومستقلّين بتوزيع أصواتهم بين مجموعة شعارات موسمية أخرى مُستفزّة واسماء مشتتة من وزراء ونواب سابقين واكاديميين وشخصيات محترمة نأى بعضهم بنفسه عن الانخراط في هذه العملية، ولم يقتنع بعض ناخبيهم بتنَحّيهم فأصرّوا على إدراج أسمائهم بطريقة أثارت لدى البعض حساسية مُفرطة من وجود نية باستهداف موقع الرئيس. ولم ينفع تبرير بعضهم انّ لجوءهم الى هذه الخطوة يعبّر برُقي عن رفضٍ مبطّن لِمضي البعض في خيارات لا يمكن ان تؤدي الى حسم الأمر لمصلحة أيّ منهما.
وفي حجة اصحاب هذا الرأي انّ الجلسات المتتالية لم تشهد على إقدام أيّ من النواب على انتخاب أيّ من الاسماء المطروحة خارج ما نَضحت به صندوقة الاقتراع، وحجّتهم انّ نجل رئيس تيار «المردة» النائب طوني فرنجية لم ينتخب والده مرة واحدة، وما زال البحث جارياً الى اليوم عن هويّة النائب الذي وضع اسمه مرة في صندوقة الاقتراع في احدى الجلسات ما قبل الاخيرة التي عقدت في 19 كانون الثاني الماضي. ولم يرصد أحد في صندوقة الاقتراع اسم قائد الجيش مرة ايضاً، ولا أزعور، فيما حظيت أسماء صلاح حنين وزياد بارود وزياد حايك بأرقام رمزية.
عند هذه المعطيات والمؤشرات خرج نواب تكتل الاعتدال الوطني من اللقاء مع بري بانطباعات مختلفة. وقد توزّعت بين الإشارة المهمة الى جدية بري للمرة الاولى، ولربما انّ احداً من الارانب التي توزّع سحبها مع جنبلاط قد انتهى الى ما نَوَاه ولو في السر حتى الآن. ولربما شكّل ذلك مخرجاً يقود الى قرب حصول مثل هذا التطور الايجابي، وبقيَ آخرون يحتفظون بمجموعة من الملاحظات السلبية التي لم تقدّم بعد أي إشارة إيجابية.
وفي انتظار ما يؤدي الى فوز أيّ من القراءتين المتناقضتين اللتين خرج بهما نواب التكتل من عين التينة، بقيَ الأمر رَهن سيناريوهات أخرى تجري فصولها في أكثر من موقع ومنطقة، ومن دون نتيجة أيّ خطوة إيجابية مطلوبة من اكثر من طرف تلتقي مَطابخ عدة على إنجازها، خصوصاً انّ الفيتوات المتبادلة ما زالت في الكواليس، وليس في كل ما يُنشر سوى تسويق إعلامي لهذا المرشح او ذاك قبل بلوغ ساعة الجد، ومَن في قدرته تحديد ساعة الصفر لمِثل هذه الخطوة الانقاذية.