لطالما أسقط سياسيون وغير سياسيين على الوضع السياسي وتعقيداته التي لا تُفكّ، وتجاذباته حول كبير الامور وصغيرها وَصف «العصفورية»، وذلك كتعبير عن العجز عن فهم ما يجري في بلد يدور حول نفسه، تحكمه تحوّلات في المواقف، تصعد وتهبط بلا سبب، وكلام يتطايَر في كل اتجاه، لا يُعرف كيف ومتى ومن أين يبدأ، كما لا يُعرف متى وكيف ولماذا ينتهي.
فقط عرض متواصل على سطح البلد، تتداخل فيه المشاهد وتختلط فيه المكايدات من هنا، والنكايات من هناك، وما بينهما مزايدات لا حدود لها، تتكامل مع محطات متناقضة وغير مفهومة؛ المسموح فيها هنا مثل إطلاق عمل الحكومة، ممنوع هناك مثل تعطيل المجلس النيابي.
الى جانب محطات «قسرية» فرضها الافلاس السياسي عن ابتداع حلول ومخارج وحلول وسط، مثل «حوار الضرورة « بين تيار «المستقبل» و«حزب الله»، الذي يعقد فقط لمجرد الصورة، من دون التمكن من الترجمة الحقيقية لعنوانه «تنفيس الاحتقان».
وكذلك الحوار الوطني الذي أراده الرئيس نبيه بري مطبخاً لحل، فاستحال مطبخاً للبحص، يُفصِّل فيه كل طرف، الحل سياسياً كان أو رئاسياً او انتخابياً، على مقاس مصلحته. وها هو الحوار يستريح أربعين يوماً لعلّ عقل الرحمن يسكن بعض الرؤوس، او ارادة ما تأتي من مكان ما لتفرض حلاً ما.
والأكثر دلالة على عدم الانسجام بين القول والفعل والممارسة، وزير يستقيل ولا يستقيل، يخاطب الاعلام مُتعفّفاً، ويقدم نفسه زاهداً بالكرسي، ومُتخلياً عن جنة الوزارة وكل الملذات الحكومية، وامّا على الارض فتراه وزيراً كامل المواصفات والصلاحيات، متسمّراً بالكرسي، يصرف الاعمال، يوقع البريد والمعاملات، كأنه يدفن رأسه في الرمال وليس من يراه!
كل هذا الارتباك والارتجاج والترنّح والاهتراء الذي يشوب الصورة الداخلية، مَرئي بوضوح من عين التينة، ويقاربه الرئيس نبيه بري على طريقته، أولاً بإبداء القرف من حال الانسداد الذي يعطّل مسار الدولة ويسحبها الى الخلف، وثانياً من خلال التأكيد أنّ الحل الشافي للأزمة الراهنة يكمن من جهة، في بلوغ الحوار الوطني الذي يرعاه شاطئ الامان الذي يمكن ان يوفره التوافق في الجلسات الثلاث مطلع آب المقبل على السلة المتكاملة، ومن جهة ثانية على ترجمة وصفة طبية يُسديها الى «بعض»، وفيها أنّ الضرورة باتت تحتّم استيراد حبوب منع «الهبل» وتوزيعها على المستحقين ممّن يعانون «الهبل السياسي». وما أكثرهم!
ما هو غير مفهوم بالنسبة الى برّي هو الإمعان في تعطيل المجلس النيابي ومنعه من مقاربة مصالح الناس ومصالح الدولة، فثمّة عشرات مشاريع بالغة الاهمية تنتظر إقرارها في الهيئة العامة. قال بتشريع الضرورة فتمّ إحباطه… يفتح نافذة من هنا فيأتي من يغلقها من هناك.
وبقي التعويل على الحكومة، وان كانت تبدو وكأنها آيلة الى السقوط، إلّا أنّ وظيفتها لم تنتف بعد، وما زالت تمثّل على هزالتها، آخر مظهر دستوري للدولة المسكونة بأشباح الشغور، مع العلم أنّ هذه الحكومة تثبت يوماً بعد يوم أنّها مجرّد هيكل سياسي، وعرجاء بالكاد تستطيع أن تمشي، وإن مشت فتتخبّط ذات اليمين وذات الشمال. هذا ما يقوله عنها أهلها.
للرئيس برّي نظرته الى الحكومة، «لا بد من الحفاظ عليها»، ولكن في الوقت ذاته «لا بد من تحسين الأداء وتفعيله، وترك الحكومة تعمل ولو بطاقة الحد الأدنى». ما كان يوماً راضياً على آلية اتخاذ القرار التي اتّبعها رئيس الحكومة تمام سلام منذ بدء الشغور الرئاسي. «الحل الأمثل كان باعتماد التصويت بدل تقييد الحكومة بآلية معقدة». علماً أنّ هذه الآلية دفعت البعض الى تسمية الحكومة بـ»حكومة الـ24 رئيساً»!
رئيس الحكومة أقرّ بخطأ اعتماد الآلية المَشكو منها. حمل شكواه الى عين التينة قبل ايام، وفي معرض توصيف الوضع الراهن حكومياً ومجلسياً ورئاسياً، قال أحدهما للآخر»لا تشكيلي ابكيلك». وخلال اللقاء عرض سلام حال حكومته، رَمقه برّي بنظرة فيها الكثير من الكلام، فبادره سلام قائلاً: «أتمنى عليك الّا تقول شيئاً، أعرف ما ستقوله». كان سلام يدرك أنّ برّي سيقول له «الحق عليك ما كان يجب ان تعتمد تلك الآلية»!
على الحكومة أن تمشي بكامل طاقتها يقول برّي، وليس هناك ما يُبرّر أيّ تباطؤ، وهو الأمر نفسه الذي يتمنّاه رئيس الحكومة. فمع إدراك الاخير انّ مهمة حكومته، لا بل وظيفتها، لم تنتفِ بعد، لكنه بات يشعر أنّها اصبحت عبئاً ثقيلاً عليه، خصوصاً أنه ينظر اليها كحكومة هي الأكثر فشلاً وفساداً. هنا يتلاقى سلام مع الرئيس برّي الذي يقول: «لم يسبق أن مرّت على لبنان حكومة كالحكومة الحالية».
أكثر من ذلك، هناك من يؤكد أنّ الحنق الذي يشعر به سلام حيال حكومته، جعله يعتبر أنّ استمراره في ترؤس هذه الحكومة هو في أحسن الحالات عقاباً له. وكثيراً ما يتمنّى لو انه ليس جزءاً من هذه المنظومة الحكومية، لكنه مضطر لأن يتعايش معها ولو قسرياً، ويتحمّل هذه العقوبة، ولا يستطيع التخلّي عن مسؤوليته في هذا الوقت الحساس الذي يواجه فيه لبنان المخاطر. وفي كل الحالات التخلّي عن المسؤولية في هذه الظروف يُعدّ قفزة في المجهول، وبالتالي هو لن يقدم على ذلك.
وأكثر ما يغيظ سلام لا بل قرفه، كما يقول مقرّبون، هو ما آل اليه وضع حكومته وتجاذبات وزرائها، واكثر من ذلك رائحة الفساد التي تنبعث من ملفات عديدة، لكنه لم يسمّها. وأيضاً الصراع ما بين بعض الوزراء على مشاريع هنا وهناك، والمؤسف أنّ هؤلاء الوزراء لا ينطلقون في مقاربة تلك المشاريع وفق طابعها الانتمائي، بما تقتضيه من معايير ومقاييس إنمائية وموضوعية، بل يقاربونها من مزايدات شعبوية ومعايير مناطقية وطائفية.
في خلاصة الأمر، يبدو أنّ كَيل رئيس الحكومة شارفَ على أن يطفح، ويقال إنّه حذّر الوزراء من أنّه صار على قاب قوسين او ادنى من اتخاذ القرار، خصوصاً أنّ الحكومة صارت في مهب الريح نتيجة المزايدات والنكايات بين مكوّناتها… وهو وعلى رغم كل شيء لا يزال صابراً، والرئيس نبيه برّي، كما يعتبر سلام، شريكه في الصبر… إنما للصبر حدود!