توجّس مشروع من تقديم الانتخابات النيابية ودعوة لقرار جريء بتحييد البلد عن بركان المنطقة
مبادرة بري: حل للأزمة الرئاسية أم ذهاب إلى المؤتمر التأسيسي؟
الحريري يتعرّض لمشروع إلغاء… والمواجهة تقتضي مراجعة نقدية واستعادة المبادرة
طَرَحَت مبادرة رئيس مجلس النواب نبيه برّي، والتي ارتكزت في جوهرها على إجراء الانتخابات النيابية قبل الانتخابات الرئاسية مع التعهّد بإنجاز الاستحقاق الرئاسي في أوّل يوم بعد انتخاب هيئة المجلس، أسئلة حول مرامي هذه المبادرة وتوقيتها وأسبابها، وما إذا كانت تتكئ على «قوة دفع ما» داخلياً وخارجياً؟
العارفون برئيس المجلس ينطلقون من اقتناع بأن المبادرة لا يمكن أن تأتي من فراغ، وهي تالياً ارتكزت في توقيتها السياسي إلى عامل رئيسي يتمثل بسقوط ذريعة الاعتبارات الأمنية التي حالت دون إجراء الانتخابات النيابية في موعدها والتمديد للبرلمان لمرّتين متتاليتين، ذلك أن الانتخابات البلدية والاختيارية أظهرت القدرة على الجهوزية الأمنية لإنجاز الاستحقاقات الديمقراطية في مواقيتها.
لكن ثمة مَن يرى أن المبادرة التي حملت في طياتها حماسة واضحة في اتجاه «قانون الستين» مِن قِبل قوى الثامن من آذار التي كانت ترفض رفضاً قاطعاً اعتماد هذا القانون في أي انتخابات نيابية مقبلة، وتشترط القانون النسبي أو أقله المختـلَط، تعكس في جانب منها قراءة للتحوّلات التي أفرزتها الانتخابات البلدية والاختيارية، في جولتيها الأولى والثانية، داخل كل البيئات السياسية والطوائفية والمناطقية، والتي أشّرت إلى عمق الهوّة الآخذة بالتنامي بين البيئات الحاضنة للقوى السياسية على اختلاف انتماءاتها، بما يدفع إلى الاستنتاج الأوّلي بفقدان تلك القوى للقدرة على تجيير المزاج الشعبي لمصلحتها في الاستحقاقات المصيرية، واللعب على شدّ وتَر العَصَب المذهبي والطائفي الذي حَـكَـمَ الحياة السياسية منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وتداعيات هذا الاغتيال الذي آل إلى انقسامات عامودية، زادت من حدّتها التطورات الإقليمية ولا سيما الأحداث السورية.
على أن التوجّس مِن مبادرة برّي، ولا سيما في أوساط قوى الرابع عشر من آذار، ينطلق مِن أَنّ الدفع في اتجاه الانتخابات النيابية على أساس قانون الستين سوف يؤول إلى إنتاج مجلس نيابي بتوازنات شبيهة بالمجلس الحالي وبنفس التحالفات إلى حدّ كبير، ما يطرح السؤال عن الهدف الكامن وراء الإتيان بمجلس نيابي جديد بموازين قوى مماثلة؟ وإذا كان الرهان سابقاً على إجراء انتخابات نيابية على أساس قانون مختلط بهدف الإتيان بمجلس تكون فيه الغَـلَبة لقوى الثامن من آذار، ما يؤول إلى تحكّمها بطبيعة وهوية الرئيس المقبل، فإن مجلساً نيابياً بمواصفات المجلس الحالي يُسقط هذا الرهان، ليُعيد معه الاستحقاق الرئاسي إلى المربّع الأوّل.
فالتعطيل الحاصل اليوم مع المجلس الحالي سينسحب إلى المجلس الجديد، ذلك أن الحديث عن تعهدات بانتخاب الرئيس العتيد مباشرة بعد انتخاب البرلمان لا يمكن الركون إليه، فالتجارب السابقة مع التعهدات التي قُطِعت مع «اتفاق الدوحة»، الذي كان برعاية عربية وإقليمية وغطاء دولي، ذهبت أدراج الرياح وأُطيح بها من قِـبَـل «حزب الله» حين وَجَد الفرصة المناسبة لذلك، وهو لا يزال ماضياً في فرض أجندته على الحياة السياسية اللبنانية من خلال تعطيل نصاب انتخاب الرئيس، رابطاً ذلك بالتوقيت والظروف والمعطيات التي يراها مناسبة، الأمر الذي قد يتكرّر مجدداً مع تغيير جوهري وأساسي يتمثل بالإطاحة بالحكومة التي ستتحوّل حكماً إلى حكومة تصريف أعمال تُدير البلاد بالحد الأدنى الذي يجيزه الدستور لها، ما يجعل مجلس النواب - بوصفه الهيئة المُنتخَبة - السلطة الدستورية الشرعية الوحيدة في ظل فراغ في السلطة الأولى وتقييد وعجز في السلطة الثالثة.
المشككون بمبادرة برّي يرون أن الورقة المستورة لطرحها يكمن في الوصول بالبلاد إلى حائط مسدود، بحيث يصبح معه طرح ما يسمى «بالمؤتمر التأسيسي» أمراً واقعاً لا مَهرَب منه. ويذهبون إلى الاعتقاد بأن مجلس النواب الجديد سيتحوّل إلى مجلس تأسيسي للبحث في تغيير النظام القائم، من دون القدرة على معرفة المدى الذي يمكن أن يصل إليه «بازار» مطالب القوى السياسية وشهيتها. وهذا السيناريو، في رأي هؤلاء، يبرز من خلال الخيار الثالث الذي تضمّنته المبادرة، بما اعتبرته الذهاب إلى «دوحة جديد» يستحضر على الطاولة كل الملفات العالقة، مِن الرئاسة إلى قانون الانتخاب فالحكومة والحوار.
لكن المخاوف التي تعتري بعض قوى الرابع عشر من آذار تنطلق من أن استمرار تعطيل الانتخابات الرئاسية والوصول إلى خريف 2017 فترة انتهاء ولاية المجلس النيابي الممددة، سيضع الجميع أمام الأمر الواقع بالذهاب إلى الاستحقاق النيابي، في ظل استحالة تمديد ثالث، ما يعني عملياً، الدخول ما بعد الانتخابات النيابية في المجهول الذي سيجعل لبنان أمام خيارين، إما انهيار الدولة أو الإذعان إلى طموحات تغيير النظام.
غير أن هذه المخاوف لا تدفع بأصحابها إلى التسليم بأنها أضحت قدراً محتوماً، ذلك أن المطلوب أولاً الصمود في وجه محاولات ضرب ما تبقى من مرتكزات الدولة، والعمل على تحييد لبنان كي لا يتدحرج باتجاه البركان الذي يُحيط به، لكن ذلك لا بدّ من أن يترافق مع قرار جريء لدى قوى 14 آذار بإعادة تقويم المرحلة الماضية والأخطاء التي ارتكبتها للخروج من كبوتها، والعودة إلى الإمساك بزمام المبادرة، مع ما يعنيه ذلك من حاجة ضرورية لدى زعيم تيّار «المستقبل» سعد الحريري لإجراء مراجعة ذاتية نقدية وشفافة لأداء تياره، وإعادة هيكلته بروحية جديدة وصوغ خطاب سياسي يعيد الثقة إلى بيئته الحاضنة وجمهوره، ذلك أن أي مشروع مواجهة لا يمكن أن يستقيم من دون زعيم «المستقبل»، بما يشكّله من رافعة سياسية وشعبية، وهو الأمر الذي بات يتطلب منه اليقظة.
ففي رأي عالمين بخلفيات «حزب الله» أن الهدف الرئيسي لدى الحزب هو إضعاف الحريري إلى الحد الذي يُفقده القدرة على أي مبادرة، وهو الأمر الذي بات يتطلب من الحريري الاقتناع بأن ما يواجهه من مشروع إضعاف يوازي مشروع إلغاء، وأنه آن الأوان لأن يتصرّف بناء على هذه القاعدة، ويستنهض قواه بدل الاستمرار في المسار الانحداري الراهن!