خلال المرحلة السابقة التي كان التعاطي فيها بين «حزب الله» والمملكة العربية السعودية يجري بأسلوب هادئ وبعيداً من ضغوط النزاعات الاقليمية المباشرة، كان يمكن سماع لغة إيجابية من الطرفين عن بعضهما بعضاً. الرياض كانت تعتبر أنّ مشكلتها مع الحزب لا تنطلق من الرغبة في العداء له، بل من رغبتها في أن يُبدي الحزب أقوى الإشارات التي تؤكّد أنه ليس جزءاً من سياسة إيران في لبنان والمشرق والمنطقة. وفي مرات غير قليلة بدَت السعودية مستعدة للحلول مكان إيران في تقديم الدعم للحزب ومقاومته في حال قرّر الانتقال من حضن طهران الى الحضن العربي.
كلّ هذه الطروحات كان يجري تداولها خلال فترة سياسية يمكن تسميتها بمرحلة محاولة كلٍّ من الحزب والمملكة «تجريب الحلول» بينهما، الامر الذي تبدَّد حالياً لمصلحة انتقالهما إلى مرحلة «تجريب أدوات الضغط» بعضهما ضدّ بعض.
والواقع أنّ مرحلة تجريب الحلول بين «دول الاعتدال العربي» والحزب التي هجرها الخليجيون الى الآن، لا تزال لديها حتى هذه اللحظة ترجمة واضحة في تفكير القيادة المصرية المغرّدة بخصوص مقاربتها لـ«حزب الله» خارج سرب محور حلفائها العرب: مصر ليس لديها مشكلة مع قتال الحزب في سوريا، فهو جزء يجب أن يكون شاملاً ضدّ التكفيريين الذين لهم أشقاء في سيناء وكلّ مصر.
وليس لديها مشكلة في مقاومة الحزب ضدّ اسرائيل، بل ترى فائدة في ذلك انطلاقاً من استراتيجيتها العسكرية التي تعتقد بأنّ تنظيمات مثل «حزب الله» وحتى «حماس» تقوم بمهمة إشغال العدو الاسرائيلي وتشتيت جهوده العسكرية التي تلاحظ القاهرة أنّ نسبة عالية من استعداداتها لا تزال موجهة ضدّ مصر على رغم معاهدة «كمب ديفيد».
القاهرة تؤكّد أنّ مشكلتها ليست مع مقاومتَي «حماس» و»حزب الله»، بل مع ارتباطهما بالمشروع الايراني وبالنسبة إلى «حماس» ارتباطها أيضاً بالتنظيم الدولي لـ»لإخوان المسلمين».
وخلال «مرحلة تجريب الحلول»، كان الرئيس رفيق الحريري قد حاول أن يؤدي دور صلة الوصل غير المباشرة بين الرياض وحزب الله. لم تكن قيادة الحزب تمقت هذا المسعى، إذ يوجد للرياض ثقل كبير في مجالين على الأقل يهمان الحزب: أوّلهما تجسيد الوحدة الاسلامية على ارض الواقع، وهو شعار يرفعه مرشد الثورة الاسلامية علي خامنئي أيضاً، ويعرف الحزب أنّ تطبيقاته على ارض الواقع في المنطقة وفي لبنان، تحتاج الى مساهمة سعودية كبيرة.
والثاني لأنّ الحزب تهمه صورته العربية في مقابل طغيان صورته الايرانية. وهناك بوابتان لولوجه البوابة العربية هما الرياض والقاهرة؛ ويصادف أنّ هاتين العاصمتين لديهما مشكلة استراتيجية مع إيران وبالتالي مع ارتباط «حزب الله» بها.
نجح رفيق الحريري وفق ما كان ينقل عنه بعد إبرام «اتفاق الطائف» في تعريب فكرة في المملكة العربية السعودية، تتحدث عن أهمية دخول «حزب الله» نادي الحكومات اللبنانية، لأنّ ذلك سيفيد في جعله أقلّ تطرّفاً. ونجح أيضاً في نقل صورة عن المملكة ملطفة الى الحزب، قوامها أنّ السعودية ليس لديها مشكلة مع الشيعة العرب، وكلّ ما تريده من الحزب أن يقسم أولوياته على الأقل الى نصفين: عربي وإيراني.
نصر الله الذي كان قبل حرب اليمن وبدقة أكثر قبل حرب تموز ٢٠٠٦، ميالاً للأسباب المذكورة آنفاً إلى عدم كسر الجرة السياسية مع السعودية، كان يحرص على التقاط إشارات الصداقة التي تبديها الرياض نحوه ولو عن بعد، في مقابل تعمّده إهمال إشارات توحي بعدائها نحوه ونحو حزبه.
طرأ تغيّر لا يمكن تجاهله تجاه سلوك الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله الآنف تجاه الرياض؛ وحصل ذلك تحديداً بعد ظهور استراتيجية سوريّة اعتمدت قبل أحداثها على نظرية استبدال الفضاء العربي الرسمي غير الممانع بما سمي آنذاك بالفضاءين التركي والايراني. صحيح أنّ موقف السعودية خلال حرب تموز ٢٠٠٦ أحدَث صدمة لبنية الهدنة المعتمدة بين السعودية و«حزب الله»، ولكنّ نصرالله لم يطل انتقاده للسعودية.
كما أنّ الأموال القطرية التي تدفقت لمصلحة إعمار مناطق القاعدة الاجتماعية للحزب، أدّت دوراً في تلطيف العلاقة الخليجية عموماً مع الحزب وجمهوره، فهذه المبادرات المالية لم تكن فقط قطرية بل كانت فيها مساهمات إماراتية وسعودية وكويتية.
وعليه انتهى على الأقل زمن ادارة الظهر بين بيئة الحزب اللبنانية وبين الخليج، وصار شعار «شكراً قطر» و«شكراً للكويت وللإمارات» أو حتى «شكراً السعودية»، لديه مساحة في مناطق «حزب الله» التي اعتادت أن ترفع في غالبيتها شعارات تبارك الدعم الايراني وتعلن الانتماء لسياساته.
السعوديون لا يعرفون نصرالله؛ والزيارات التي تمّ تنظيمها للسفير السعودي السابق في لبنان عبد العزيز خوجة للقائه تخلّلتها حوادث غير مناسبة ادت الى تحقيق نتائج عكسية لمبتغاها الذي كان يُخطّط لتقارب ما.
يعرف السعوديون الشيخ محمد شمس الدين وبدرجة اكبر السيد علي الامين، وهم يثمّنون وجود رئيس مجلس النواب نبيه برّي كشيعي قادر على إحداث توازن بين القطيعة السعودية مع الحزب وإمكان عدم قطع شعرة معاوية بين الرياض وشيعة لبنان.
بالنسبة إلى الشيخ شمس الدين النير الفكر، كانت الرياض تنظر اليه بصفته مؤسّسة دينية مقبولة عربياً في لبنان وليس تياراً شيعياً. كان شمس الدين النجفي التربية (درس علومه الدينية في النجف في العراق) يظهر انحيازاً لعروبته على حساب دور مرجعية قم الايرانية في المنطقة العربية.
لم يكن معادياً لإيران لكنه لم يكن مؤمناً بدورها البديل او حتى الموازي داخل الوطن العربي للأزهر ولمكة الخ… وهذه نقطة كانت تجعل السعوديين يلتفتون اليه بإعجاب.
الأمين العام السابق لـ»حزب الله» الشيخ صبحي الطفيلي والمسكونة شخصيته بعدائية شخصية لنصرالله الذي أخذ منه منصبه ووهجه داخل الحزب، لا يمكن للرياض اعتباره مشروعاً شيعياً في لبنان تُعوّل عليه ليناصرها في حربها ضد حزب الله.
الطفيلي مرحلة في الحزب تمّ تجاوزها وهي حبلى بذاكرة النزاع الشيعي – الشيعي واعتماد مناهج بدائية في قتال إسرائيل وفيها أسرار عن النشأة وصيروراتها يرغب حزب الله الجديد في نسيانها، والموقف نفسه منها موجود حتى في طهران واجتماع مشيختها الذي ساهم في إنشاء الحزب.
لا توجد حكمة في استمرار «القطيعة السلبية» بين الرياض و»حزب الله» في لبنان، وحتى لو كانت اليمن هي سببها كما يقول نصرالله أو إيران هي جوهرها كما تقول السعودية. وهذا إقتناع موجود لدى بري الذي يرى أنّه لا يجب على الحزب أن يكون إيرانياً أكثر من إيران بخصوص النزاع الاقليمي مع السعودية، في حين أنه لا يجب على السعودية التخلي عن أسلوبها اللين مع لبنان.
وربما هذا الإقتناع نفسه وإن من منظار آخر، موجود عند الرئيس سعد الحريري الذي يعرف أنّ تسويات إيرانية – سعودية تفضي الى تسويات سنّية – شيعية في لبنان، وانهيارها يفضي حتماً لانهيارها.
وفي ذاكرة الحريري واقعة معاشة واحدة على الأقل عن صحة هذه المقولة، قوامها تجربة الـ»سين ـ سين» بين الرئيس بشار الأسد والملك عبدالله التي أدّت الى اتفاق على الاستقرار السياسي في العراق ولبنان معاً. وكان عنوانه في بلاد الرافدين الشيعي أياد علاوي رئيساً للحكومة العراقية وفي بلد الأرز سعد الحريري رئيساً للحكومة اللبنانية.
وحينما ضربت إيران يدها على الطاولة الاقليمية انهارت الـ «سين ـ سين» وأُبعِد العلاوي والحريري من الحكم بضربة واحدة. حتى حينما كانت سوريا بشار الأسد، قوية، فإنّ تعبيرها اللبناني كان يظلّ ناقصاً من دون دعم ايران، وحتى حينما تكون السعودية قوية فإنّ تفاهماتها اللبنانية مع سوريا تظلّ غير مضمونة التنفيذ من دون موافقة إيران.
تملك السعودية في لبنان من دون إيران حقّ النقض ولكن ليس قدرة بناء المعادلات. ولكن مع إيران يصبح الوضع مختلفاً وتصبح قادرة على نيل تنازلات في لبنان، عادة ما يكون الحريري ممثل السنّة الأهم في البلد، المستفيد الأكبر منها.
كيف المَخرج الآن من الاشتباك القائم بين المملكة وحزب الله؟
هل يجب وفق مقولة نصرالله انتظار حلّ أزمة اليمن ليصبح ممكناً إسكات جبهة المدافع السياسية المفتوحة بين الطرفين والتي تؤدي في لبنان الى إصابات اقتصادية وسياسية كبيرة وفادحة؟ أم إنّ كلّ القصة تتنتهي عندما يستقرّ الاشتباك السعودي – الإيراني على تسوية، أو حتى هدنة، حسبما ترى الرياض وأيضاً برّي والحريري في سرّهما ومعهما النائب وليد جنبلاط؟ أم يمكن ابتداع حلٍّ لبناني لهذه الأزمة التي لا يمكن لعاقل تجاهل انعكاساتها الاكثر من خطرة على الوضع الداخلي اللبناني.
الحوار بين تيار «المستقبل» و«حزب الله»، هو صيغة يمكن في حال تطوير نقاشاتها لتصبح ذات أبعاد إقليمية، أن تشكل مخرجاً لاستكشاف إرهاصات حل. وبرّي راعي الحوار بين «الأصفر والأزرق» يعوّل عليه في بعض المحافل لاعتماده إقليمياً كـ«إطفائي عربي وإيراني مشترك» لنار الفتنة السنّية ـ الشيعية اللبنانية، خصوصاً أنْ لا طهران ولا الرياض لديهما مصلحة في إشعال لبنان بحروب مذهبية تكرّر ما يحصل في العراق وسوريا وحتى في اليمن.
ثمّة من أصدقاء لبنان الخليجيين مَن يقترح أن يُلبّي برّي دعوة الرياض وأن يصل اليها ضمن جولة عربية تشمل الكويت ومصر وحتى باريس التي اعتمدت غير مرة وسيطاً من أجل لبنان بين طهران والرياض، وأن يحمل برّي في جولته ملف هدنة تعالج انعكاسات النزاع الإيراني ـ السعودي على لبنان، وأن يقترح صيغة تسوية، أو أقله هدنة، تتمّ من خلالها مداواة التقرّحات التي طرأت على خيوط العلاقة الرفيعة أساساً بين حزب الله والرياض وتؤدي استدراكاً لإنتاج حلّ لأزمة الشغور الرئاسي بصفتها مدخلاً لإعادة إنتاج الاستقرار اللبناني، وليس إعادة إنتاج النظام السياسي في لبنان. لكن حتى هذه اللحظة لا تظهر أيّ مؤشرات توحي بأنّ الرياض تريد هدنة أو الحزب يريد مساومة.
وكلّ هذا يجعل برّي ميالاً الى إبقاء دعوة السعودية إلى زيارتها في دُرج الانتظار علّها تأتي اللحظة المناسبة لقيامه بمبادرة «صلح بين المتخاصمين»، بين نصرالله والقيادة السعودية على الساحة اللبنانية.