الى طهران وصل رئيس مجلس النواب نبيه برّي ضيفاً مكرّماً. ومعه حضر الانتصار على إرهابيّي «جبهة النصرة» باسم كل الشعب اللبناني، إنتصار قدّرته القيادة الايرانية من الرئيس حسن روحاني الى رئيس مجلس الشورى علي لايجاني الى وزير الخارجية محمد جواد ظريف، فتقدّمت بالتهنئة الى برّي شخصياً كشريك في هذا الانتصار، وعبره الى كلّ لبنان وفي المقدمة الجيش والمقاومة.
حضرت معه صورة لبنان في ظلّ الانتصار على إرهابيّي الجرود، وأيضاً تلك الصور التي تحكي تاريخ المقاومة ضدّ الارهاب الاسرائيلي. وانتصار التحرير في العام 2000 وانتصار الصمود وإفشال محاولة تغيير وجه لبنان في العام 2006.
وحضرت معه قراءة لمشهد المنطقة وتقلّباتها وما يتهدّدها منذ ما سُمّي بالربيع العربي.. فإذ به يكون خريفاً جعل حدود الدول كأوراقه صفراء آيلة للسقوط في مرحلة يبدو أنّ عنوانها «تقسيم المقسّم» الى كيانات تُطلق رصاصة الرحمة على ما كانت تسمّى دولاً. تخفق الهدف الذي رسمه شيمون بيريز في كتابه عن «الشرق الاوسط الجديد» كما تريده اسرائيل.
هنا يكمن الخطر الدائم… الذي يتعاظم أكثر فأكثر مع صراع الأمم على ارض «الربيع العربي»، ومع إدارات دول كبرى أولويّتها «شفط» المال العربي، وتجارة السلاح. ومع الواقع الاسود الذي فتك بعلاقات دول يفترض أنها شقيقة. فغدَت إمّا مأزومة في داخلها وتقاتل نفسها، وإمّا متحاربة مع بعضها البعض، في مشهد لا يُطمئن لا على حاضرها ولا على مستقبلها.
ومن طهران، توجّه بري الى الداخل اللبناني، والى من يجب أن يسمع في اي مكان وقال: «إنّ شاء الله يكون عيد الانتصار على اسرائيل في 14 آب، موعد الانتصار على الارهاب».
هي جملة تنطوي على أكثر من دلالة ومعنى ومغزى، خصوصاً أنه المواكب لهذه المعركة الوجودية التي يخوضها لبنان بكلّ قواه.
هي جملة منطلقة من القناعة التي باتت راسخة في أذهان جميع اللبنانيين بأنّ «النصرة» في جرود عرسال، و»داعش» في جرود رأس بعلبك والقاع وجهان لإرهاب واحد، أطيح بنصفه العرسالي الى غير رجعة، أمّا النصف الثاني فبات تحت شفرة المقصلة التي لا بد لها أن تهوي في أي لحظة وتقطع هذا الرأس المدبّر لكل الجرائم الارهابية بحق جميع اللبنانيين.
وهنا، كما يقول برّي، يكتمل الانتصار في الجرود كلها، وبالتالي لهذا الذي تحدّث عنه ربطاً بذكرى 14 آب فرصة لأن يصبح العيد عيدين، والنصر نصرين، وبالتالي عيد النصرين.
إذاً، هي معركة «الفصل الاخير» كما يراها برّي، الفصل الذي يجب أن يطوى ويختم اليوم قبل الغد. ولأنّ لهذه المعركة ظروفها ومستلزماتها، وخططها وعدّتها وعديدها وأبجديتها الخاصة بها، فإنّ ساعة الصفر لإشعال شرارتها في يد أهلها، والمعني هنا في الدرجة الاولى هو الجيش اللبناني، فهو صاحب القرار وفي يده توقيته الذي يباغت فيه «العدو الداعشي».
على أنّ الأهم بالنسبة الى برّي هو أنّ معركة كهذه تتطلّب عناية ما فوق الكبرى، خصوصاً أنّ اتخاذ القرار بخوضها ليس له سوى معنى وحيد: إتخاذ القرار بالانتصار وهذا ما يجب ان يحصل.
من البداية، سعى رئيس المجلس لأن ينأى بانتصار الجرود عن أيّ مشوّهات، وعن الاصوات التي ثبُت بالتجربة أنها لا تُتقن سوى فنّ التشويش والتجريح والتشويه، وعندما قال إنّ هناك إجماعاً وطنياً على معركة اجتثاث الارهاب من الجرود العرسالية المحتلة كما جرود رأس بعلبك والقاع، كان ينظر الى الارض اللبنانية التي نبضت كلها تأييداً لهذه المعركة ووقفت خلف الجهة التي خاضتها: «أنا قلتُ وما زلت اقول انّ هناك إجماعاً حول معركة الجرود، وإذا طاب للبعض أن يصرخوا فليصرخوا بقدر ما يشاؤون، وليرفعوا أصواتهم الى السقف الاعلى، فهذا لن ينفي او يؤثّر على حقيقة أنّ الاجماع الوطني اللبناني العام متوافر حول هذه المعركة، وهذا الإجماع ليس من نسج الخيال بل نسجه الشعب اللبناني كله، وبمسيحيّيه ومسلميه، وَقف ولا يزال خلف هذه المعركة.
قد تكون للبعض اعتباراتهم وحساباتهم، مع ذلك فهؤلاء قلّة، فليسألوا أهل القاع ورأس بعلبك ودير الاحمر وعرسال، هل هم مع هذه المعركة أم لا؟ دقّوا على أبوابهم فستسمعون الجواب».
وكما يستنتج من كلام برّي فإنه لا يَقف عند حدود انتصار الجرود. بل هناك انتصارات داخلية أخرى لا بد من تحقيقها ولا تقلّ أهمية عن الانتصارات الميدانية كونها مرتبطة بحياة اللبنانيّين وبالواقع الذي يحكمهم على كل المستويات، وهذه عيّنة من «الانتصارات الأخرى»:
– الإنتصار على الذات المهزوم بخلطة عجيبة غريبة تعلّي منطق الأنانية والمصلحية الفردية والفئوية فوق كل الاعتبارات وكلّ ما يتّصل بمصالح الناس، وبمصلحة الدولة وماليتها التي يفترض أن تكون فوق المصالح كلها.
– الإنتصار على كلّ الموانع القاطعة طريق الوصول الى الدولة النظيفة من كل الامراض المزمنة والمستعصية التي تفتك بها فساداً وفلتاناً وفوضى لا تحتاج إلّا لقرار وإرادة توفير كل مستحضرات ومساحيق التنظيف وإزالة كل البقع الملوثة، لا بل كل الجمرات الخبيثة ومثالها الكريه، تلك التي تلاعبت بحياة المرضى وتاجرت بأدوية الامراض الخطيرة، وحرَمتها لمَن هم في أمس الحاجة لها، وتلك جريمة أقلّ ما يقال فيها إنها ضد الانسانية.
– الإنتصار للقانون ورفع شأنه، وفَرضه على كل المحميّات سياسية كانت ام غير سياسية، والتي تعتبر نفسها محصّنة وفوق القانون.
– الإنتصار للكفاءة والخبرة، وجعلهما المعيار الوحيد في كلّ المجالات الوظيفية ولوضع الشخص المناسب في المكان المناسب بعيداً عن منطق المحاصصة والمحسوبيّة، وإسناد هذا الموقع أو ذاك حصراً لمَن هو من الملّة السياسية او الحزبية، وأمّا الآخرون المستحقون فيُحرمون.
– الإنتصار الاجتماعي، بتأكيد الانتصار لحقوق الناس، والذي تجلّى في إقرار سلسلة الرتب والرواتب والتي وفّرت لمستحقيها من الموظفين حقاً مزمناً لهم، وبتغطية لها لا تطاول الفئات الفقيرة أو المتوسطة من الشعب اللبناني، بل تطاول مَن يجب أن تطاولهم، مَن يكدّسون الارباح الخيالية من محميّات مالية وما يماثلها.
«من هنا قلت وأكرّر انّ السلسلة صارت قاب قوسين أو أدنى من متناول مستحقيها، لذلك لا يجب أن نحرمهم هذا الحق، والكل يعرف أننا وصلنا الى تحقيقها بشقّ النفس وطلوع الروح».
– الإنتصار للدستور وتأكيده نصّاً ملزماً وحاكماً في كل أحكامه للجميع، ولكل مسار الدولة والمؤسسات. وبالتالي، لا يجوز أبداً أن تقارب مضامينه بطريقة انتقائية تجعله أشبه ما يكون بإله من تمر يؤكل منه تارة من هنا وتارة أخرى من هناك.
وهنا تحضر الانتخابات النيابية الفرعية كامتحان لصدقية الالتزام بالدستور، إذ انّ عدم إجرائها كما توجب وتفرض المادة 41 منه يشكّل مخالفة موصوفة للدستور… «ليس هناك ما يبرّر أو يمنع إجراءها ولا توجد ظروف قاهرة تحول دون ذلك، لكنّ ما أخشاه هو ان تكون خلف التأخير في إجراء هذه الانتخابات مماطلة متعمّدة لتطيير هذه الانتخابات عبر تضييع الوقت وصولاً الى عمق فترة الستة أشهر الفاصلة عن انتهاء ولاية مجلس النواب في أيار المقبل، فتؤكل منها أيام او أسابيع، فتصبح مهلة مبتورة، وأمام ما تبقّى من تلك الفترة قد يأتي من يقول «ما عادت محرزة رح تِخلص الولاية»!
– الإنتصار للخزينة والمال العام عبر تصويب مسار الصرف في الاتجاه المجدي الذي يُثري الخزينة بواردات هي في أمسّ الحاجة إليها، وليس على ما هو جَار في بعض محاولات إثقال الخزينة بما هو غير مجد، وبما لا طاقة لها على تحمّل أعبائه وكلفته. والأساس هنا هو الصرف المدروس والمحصّن بالقانون وبأولوية رَفد الخزينة بما يغذّيها وليس الصرف في بعض القطاعات الذي تشتمّ منه روائح هدر وصفقات حتى لا نقول اكثر من ذلك.
هنا يحضر كلام للرئيس برّي حول ملف بواخر الكهرباء يُعيد فيه التأكيد على أنه مع إصدار إدارة المناقصات لتقريرها في شأن المناقصة المرتبطة بالبواخر صارت الكلمة الفصل لمجلس الوزراء حصراً، وليس لأحد آخر، وأيّ محاولة للاستمرار في هذه المناقصة والسير بها بتجاهل تقرير إدارة المناقصات بمعزل عن مجلس الوزراء، هي بلا أيّ معنى ولا تقع في الموقع القانوني الذي ينبغي أن يحكمها. وعليه، لم يعد أمام المناقصة سوى طريق وحيد يؤدي الى مجلس الوزراء.
ويحضر هنا أيضاً كلام آخر للرئيس برّي مرتبط باستجرار الكهرباء من سوريا (295 ميغاوات) وفق الاتفاق الأخير الذي تمّ توقيعه قبل أيام بين لبنان وسوريا بقيمة 400 مليار ليرة. وهي كلفة أقلّ من كلفة البواخر العائمة التي تعمل وزارة الطاقة على تلزيم مناقصة خاصة بها الى إحدى الشركات التركية بكلفة تزيد عن 1880 مليون دولار، فضلاً عن انّ ساعات التغذية ستزيد وفق الاتفاق الجديد.
هنا لا يدخل برّي في تفاصيل المناقصة او الاتفاق الاخير بين لبنان وسوريا، بل ليسجّل ملاحظة حول الوضع الكهربائي المعيب والمهترئ في لبنان منذ سنوات طويلة من دون إنقاذ هذا القطاع من الهريان الضارب فيه. ويقول: «لاحظوا الفرق، لبنان بلد معافى ولا ينقصه شيء ووضع الكهرباء في انهيار مستمر ومُستنزف للخزينة.
أمّا سوريا فهي تعاني الحرب منذ سنوات والأزمة تفاقمت فيها الى حدّ لا يوصف، ومع ذلك ما زالت دولة تنتج الكهرباء وتبيعها وها نحن نشتري منها»؟!
وفي معرض الحديث عن سوريا كان لافتاً تركيز برّي على أهمية وضرورة إعادة العلاقات بين لبنان وسوريا الى وضعها الطبيعي: «آن الأوان لتوضع العلاقات بين البلدين في إطارها السليم الذي توجِبه الجغرافيا والتاريخ ومصلحة البلدين اللذين تجمعهما هموم مشتركة، وأوّلها موضوع النازحين».
ولا يرى بري ما يبرّر أن تبقى الحكومة اللبنانية نائية بنفسها عن هذه العلاقات، في وقت أنّ دولاً غربيّة كثيرة تتّجه نحو دمشق وتعيد فتح سفاراتها فيها، وخصوصاً الاوروبيين وإحدى الدول الغربية تستضيف على أرضها 800 ألف نازح وقررت ان تدخل في حوار مع سوريا لإعادة تدريجية لهؤلاء النازحين تشمل في مرحلتها الاولى 250 ألف نازح، بينما لبنان الذي يستضيف أكثر من مليون و500 ألف نازح يرفض الحوار مع سوريا!