تسوية الرياض: الكل رابح.. إلا قانون الانتخاب
بري يكسب جلسة.. والحريري يقفل أبواب المجلس!
ما دام الجميع يعرف أن الحل سيأتي لا محالة، لم يكن من داع لرفع السقوف والإيحاء أن الدنيا ستنقلب رأساً على عقب وأن «النواب لن يتمكنوا من الوصول إلى المجلس» بسبب أمواج العونيين والقواتيين التي ستملأ الطرق. كان المطلوب حلاً يُنزل الجميع عن الشجرة بعدما امتشقوا أغصانها وتاه الجذع عنهم. ولأن الوقت صار داهماً، تحركت كل الماكينات من كليمنصو إلى الرياض فمعراب ثم الرابية وصولاً إلى عين التينة.. فنضج الحل.
كرر جورج عدوان مراراً للصحافيين الصابرين في المجلس برغم تخطي عدد جلسات الرئاسة الثلاثين: انتظروا الساعة الثالثة. وبالفعل، نحو الساعة الثانية، وبعد انتهاء لقاء الرياض الذي جمع الرئيسين تمام سلام وسعد الحريري والوزراء: سمير مقبل، وائل أبو فاعور، جبران باسيل وعلي حسن خليل، كان الحريري يصدر بيانه المفتاح. فأعلن الالتزام بعدم حضور أي جلسة بعد جلسة اليوم ما لم تكن مخصصة لمناقشة قانون الانتخاب بهدف التوصل إلى صيغة لإقراره. وهي فكرة تبلورت مع خروج وفد «14 آذار» من عين التنية منذ يومين خالي الوفاض، حيث عمل النائب أحمد فتفت بعدها على تسويق مبدأ «إذا رفض بري الالتزام فلنلتزم نحن».. وهكذا كان. وقد ترافق ذلك مع تخلي كتلة «المستقبل»، في اجتماعها مع «القوات» و «التيار» في المجلس، عن التعديلات التي كانت قد طرحتها على اقتراح قانون استعادة الجنسية.
«يوم سعيد»
بعد ذلك، انتقل النائب ابراهيم كنعان إلى عين التينة، فخرج معلناً «انتصار لبنان»، ولاقاه العماد ميشال عون من الرابية في «اليوم السعيد» ليشير إلى أن «التكتل» سيحضر الجلسة، وهو ما أكده سمير جعجع أيضاً.
انتهت الجولة. مَن الرابح؟ ربما هو الرئيس نبيه بري الذي لم يتراجع قيد أنملة عن إصراره على عقد الجلسة في موعدها وبجدول أعمالها المقر سابقاً، أي بدون قانون الانتخاب، أضف إلى نجاحه في فتح أبواب المجلس بعد عام من الشلل. وربما هو «التيار الوطني الحر» الذي كاد ينسى طعم الانتصارات، فإذ به يرفع لواء إنجازين ستحققهما له الجلسة التشريعية، يتمثلان بإقرار قانوني استعادة الجنسية وتوزيع عائدات الخلوي. وربما هو «القوات اللبنانية»، الذي كرس نفسه حيثية تجيد اللعب على التوازنات كما تشاء، فأقنعت عون أن عصفوراً في اليد أفضل من عشرة على الشجرة وأن وعداً بطرح القانون جدياً في الجلسات التي تلي جلسة اليوم أفضل من حرقه اليوم.
وفي المحصلة، صحيح أن الحل جاء شبيهاً بما كان يتم تداوله خلال اليومين الماضيين، إلا أنه لم يتضمن التزاماً من بري بموعد نهائي لإقرار القانون الانتخابي، كما كان يطالبه «القوات» و «التيار»، لأن ذلك من صلاحيات المجلس مجتمعاً. وحتى أنه لم يضطر للالتزام بتخصيص الجلسة المقبلة لقانون الانتخاب، بعدما تكفل «المستقبل» بإعفائه من ذلك. فغياب الأخير عن أي جلسة لا تخصص لقانون الانتخاب يعني أنه لن يكون بالإمكان تأمين نصاب انعقادها. وبذلك لم يضع بري، برعاية «المستقبل»، القانون الانتخابي على سكة، ليس واضحاً متى تصل إلى محطتها، لكنه تخلى، بالشكل، وبالتكافل مع وليد جنبلاط، عن توصية سابقة كانت تقضي بعدم إقرار قانون الانتخاب قبل الانتخابات الرئاسية. كما التزم بتشكيل لجنة نيابية مصغرة، مع مهلة شهرين لإعداد قانون انتخاب، ترفع توصيتها إلى اللجان المشتركة، وفي حال عدم اتفاقها تعمد اللجان إلى التصويت على القوانين، ثم ترفعها إلى الهيئة العامة التي لن تناقش أي أمر آخر.
قانون الانتخاب إلى التسوية الشاملة؟
كيف تُصرف هذه التسوية؟ الكلام مجاني وإعلان الانتصارات من أي جهة أتى لا يلغي حقيقة أن القانون الانتخابي هو مسألة معقدة جداً، وأن الحديث عن مواعيد للبت فيه ليس سوى كلام معسول لا يمكن صرفه، طالما أن التسوية الشاملة ما تزال بعيدة. علماً أن تجربة اللجنة المصغرة سبق واختبرت مع إقرار التمديد للمجلس النيابي، حيث اتفق حينها على أن تعود لجنة قانون الانتخاب للاجتماع لمدة شهر، قبل أن يحال الموضوع إلى الهيئة العامة في حال الاتفاق أو عدمه، فإذا بالنتيجة تطيير قانون الانتخاب لسنة نتيجة الخلاف بشأن أولوية السبق: قانون الانتخاب أو الانتخابات الرئاسية. يعرف الحريري ذلك جيداً، ويعرف أنه استطاع أن يرمي قانون الانتخاب بعيداً.. وما قاله السيد حسن نصر الله أمس عن أن «قانون الانتخاب ليس بنداً عادياً يذهب بالمجاملات أو بالمزايدات» يؤكد أيضاً أن قانون الانتخاب ليس تفصيلاً يمكن إقراره في غفلة من الزمن.. لأنه «يعني مصير البلد ويعني لمن تسلّم مصيرك ودمك وعرضك ووجودك ومستقبلك وسيادتك وحريتك واستقلالك».
لكن مع ذلك فإنه في «المستقبل»، كما في «حزب الله»، ثمة من يقتنع أن إمكانية تحقيق الخرق في مسألة قانون الانتخاب لن تكون صعبة، إذ لن يحتمل أحد إقفال المجلس النيابي والحكومة إلى حين التسوية الشاملة التي ما تزال بعيدة، أضف إلى ذلك أن الاختلافات بين قانوني «14 آذار» وبري ليست كبيرة، ويمكن معالجتها من خلال زيادة الغموض في القانون الموعود.
ذلك قد يكون سابقاً لأوانه، فالأولوية الآن هي لتمرير جلسة اليوم بأقل الأضرار الممكنة، بعدما تنفس الجميع الصعداء، ولا سيما «حزب الله»، الذي يذل جهوداًُ استثنائية مع حليفيه لإبعاد الكأس المرة لجلسة تشريعية فاقدة للميثاقية.
الكل سينزل إلى الجلسة التشريعة، التي يعول جنبلاط على عملية إنضاجها، «لفتح صفحة جديدة بين الأفرقاء»، باستثناء «الكتائب»، الذي لا يزال على موقفه المبدئي الرافض للتشريع في غياب رئيس الجمهورية. النائب سامي الجميل استبق التسوية بالتأكيد أنها لم تأت إلا على حساب الدستور.
وفي غياب «الكتائب» يُفترض أن تفتتح الجلسة بتلاوة الأوراق الواردة، وهنا سيتناول النواب مسألة القانون الانتخابي، فيعلن بري على الأثر عن الصيغة التي تم التوصل إليها، ثم يبدأ الجد. والجد بلغة تشريع الضرورة يعني ترك الضرورات اللبنانية على جنب والتركيز على الضرورات الخارجية.
حكم المصارف
القوانين المالية هي المشتهى. والمصرفيون لم يكبتوا فرحتهم بتذليل العقبات من أمام عقد الجلسة، وبالتالي تذليل العقبات من أمام القوانين التي تعنيهم. وهم لم يألوا جهداً في الفترة السابقة لبث الرعب في نفوس الناس قبل السياسيين إذا لم تتحول قوانين: «تبادل المعلومات الضريبية» و «تعديل قانون مكافحة تبييض الأموال» و «نقل الأموال عبر الحدود»، إلى أمر واقع.
من المؤكد أن هذه القوانين ستقر، بقوة دفع من الرئيسين بري والحريري قبل غيرهما، لأسباب تتعلق بمصالح اللبنانيين المغتربين وبالضغوط الدولية التي تمارس، لكنه ليس مؤكداً أن تتحقق رغبة المصرفيين في إقرارها كما هي. فالتحذير والتهويل من أن المجلس النيابي لا يمكنه العبث بالنصوص الموضوعة لأنها مطلوبة خارجياً، لن يرهب النواب، ولاسيما منهم نواب «حزب الله»، الرافض للارتهان التام للنظام المالي العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة، والمؤمن أنه بالإمكان المواءمة بين مصالح لبنان واللبنانيين وضرورات الانخراط في القواعد المستجدة للنظام المالي العالمي.
ولأن المصارف هي الحاكم الفعلي، وهو ما أكدته المناقشات المطولة لقانون سلسلة الرتب والرواتب والعصي التي وضعت في دواليبه، وما تزال تعيق إدراجه على جدول أعمال الجلة العامة. وهو ما أكدته أيضاً الهبّة الرسمية لإقرار القوانين المالية، فإن القدرة النيابية على التعديل ستكون محدودة. ومع ذلك، فإن مداولات اللجان أظهرت أن الاعتراضات ستتركز على آلية التقاضي في القانون 318 (تبييض الأموال) والتي يرفض عدد من النواب تركها عند هيئة التحقيق الخاصة التابعة للمصرف المركزي ويطالبون بنقلها إلى القضاء، غير مقتنعين بأن ذلك سيشكل خروجاً عن المطالب الدولية، أضف إلى اعتراض آخر يتعلق بالحصانة الجزائية والقضائية التي يتمتع بها أعضاء الهيئة. والاعتراضات تطال أيضاً القانونين الآخرين من بوابة ضربهما للسرية المصرفية، فالأول يلزم المصارف بكشف حسابات أي مودع مزدوج الجنسية او أجنبي تشك بلاده أنه يتهرب من الضرائب، والثاني يفرض وجود قاعدة بيانات تتعلق بكل حركة الأموال عبر الحدود، مع ما يعنيه ذلك من كشف لحركة نقل الأموال وناقليها وعملياتهم الاقتصادية.
يعرف «حزب الله» أنه مستهدف في الكثير من هذه القوانين، التي تتضمن علناً أولوية «مكافحة الإرهاب»، لكنه مع ذلك لا يعارضها بالمطلق. وبالرغم من القول إن تعريف الإرهاب في القوانين اللبنانية يخضع حكماً للتعريف اللبناني، لكن ذلك، لا يبدو دقيقاً بالممارسة، فكل مشتبه به بالانضمام إلى «حزب الله»، يكون محروماً، في معظم الأحيان، من التعامل مع المصارف اللبنانية، حتى أن بعض النواب اللبنانيين المنتمين إلى الحزب يجدون صعوبة في فتح حسابات لهم في عدد من المصارف.