من سوء حظّ لبنان أنه محكومٌ بذهنيات سياسية أصدرت عليه حكماً بالسجن المؤبّد في عمق المأزق. ولا يختلف اثنان، أنّ هذه الذهنيات، وإن تبدّلت وجوهُها بين حين وآخر، او تموضعاتها السياسية بحسب الظروف، لم تتعلم من تجارب الماضي وما رتبته الأزمات المتتالية من أهوال، بل تراها بملء ارادتها تُمعن في الحفر عميقاً. وفي جعل لبنان أرضاً خصبةً للنفاق والإنفاق والانشقاق ولتموضعات وسلبيات وانقسامات حادة وتفسّخات وعصبيات وطائفيات ومذهبيات وحروب سياسية لا نهاية لها.
للمرة المئة، تجد الطبقة السياسية نفسَها وسط أزمة مسدودة، عبثاً تحاول فيها البحث عن مخارج سياسية، وقد لا تجده في ظلّ الشعور بالانتفاخ الوهمي، وسطوة ذهنية الأخذ فقط، وفقدان إرادة العطاء والتواضع.
سبعة اشهر خلت، والبلد يعيش روايةً سياسية لا يُفهَم مضمونُها، لم تثبت على سيناريو واحد، بل سيناريوهات متناقضة تتوالد كل يوم، وأما أبطالها فكل يوم يلبسون ثوباً، ويؤدون دوراً مناقضاً لسابق له أو لاحق له، أجادوا فقط التمثيل على الناس، وكانوا صادقين في التكاذب المتبادل، وفي قول الشيء وعكسه، وفي قطع التعهدات والالتزامات ونسفها وإبرام ما يناقضها، كانوا فقط مع شهواتهم وشغفهم للاستئثار والسطو على السلطة والتربّع على عرش القرار.
الناس، ضبطت هؤلاء بالجرم المشهود، جميعهم قادرون أن يتواضعوا ويتنازلوا ويعطوا ويفتحوا بابَ الحل، لكنّ كلّاً منهم يخبّئ المفتاح في «عبّه»، وشعارُه «بعيدة عن ظهري بسيطة»، او بالأحرى «بعيدة عن حصتي بسيطة»، ثم يأتي بعض أبطال هذه الرواية شاكياً: «لم يعد البلد يتحمّل ترفَ إهدار الوقت»، ثم يأتي بعض آخر بسؤال ساذج: لماذا يتعطل تأليفُ الحكومة»، ويكرّ مع سؤاله هذا سبحةً من الاتّهامات لكل الآخرينّ، يغسل معها يدَه من شراكته الكاملة في جرم تعطيل الحكومة، ويهرب الى الأمام بتلاوة أنشودة «العمل على إطلاق الدولة القوية والحرص على البلد واستقراره ووحدته الوطنية»؛ أنشودةٌ صارت ثقيلةً جداً على آذان الناس.
تسلسلُ تلك الوقائع والأحداث، أوصل الى الآفاق المسدودة، وتفاقم الأمر، بفكرة إحالة ملف الحكومة الى مجلس النواب، وفاقمتها أكثر «زلّة لسان» عن بديل للرئيس المكلف سعد الحريري، فكرةٌ استثارت الرئيس المكلف واستنفرت الواقعَ السنّي للدفاع عن «الصلاحيات المقدّسة» والتلويح بتخوين النواب السنّة إن شاركوا في المَسّ بها. وما زال الاستنفارُ مستمرّاً.
هذا الانسدادُ لخّصة بري بجملة قصيرة «عدنا الى أبجد، وما علينا سوى انتظار الفرج». ولكن فجأة، تتكوّن في الأجواء «غيمةُ تفاؤل»؛ رئيسُ الجمهورية يطلق جولة مشاورات بأفكار وطروحات، بُثَّت معها أجواءُ أوحت وكأنّ الحكومة توشك تنهض من بين الركام السياسي وستكون عيدية الميلاد؟
بري عوّل على تلك الغيمة فعبّر عن تفاؤلٍ حذِر «اللقمة وصلت الى الفم»، ولم يبقَ سوى «نظرة، فابتسامة، فلقاء» بين الرئيس المكلف ونواب اللقاء التشاوري، تؤدي الى تطبيع العلاقات في ما بينهم، وبالتالي الى رفع «الفيتو» الذي يعلنه الحريري أمام إشراكهم في حكومته، لا بواحد من بينهم ولا عبر شخصية تمثّلهم.
الرئيس المكلف، المتأثر عميقاً بزلّة اللسان، أعاد صياغة موقفه وتصلّب اكثر، مدعوماً بمواقف من المستويات السنّية السياسية والدينية التي رفعت جدار الصلاحيات عالياً، وبهذه الروحية التقى رئيس الجمهورية، وناقش الأفكار المطروحة، وسافر الى لندن على وعد «للبحث صلة بعد العودة»، فيما أوساطُه تعمّدت التأكيد على «الفيتو» واللاءات التي يرتكز عليها. والاتصال الهاتفي بينه وبين بري قبل السفر لم يكن مشجّعاً، بل على العكس، أذاب كل عناصر التفاؤل بإمكان إسقاط «الفيتو»، ودفع الى القول: «يقولون إنهم يريدون حكومة، ومع ذلك لا يقبلون بأن يتمثل نوابُ اللقاء التشاوري، لا من كيسهم ولا من كيس غيرهم، عدم تمثيلهم من كيسهم أمرٌ يمكن أن نتفهّمَه، ولكنّ عدمَ القبول بتمثيلهم من كيس غيرهم فهذا أمر غيرُ مفهوم لا نستطيع أن نستسيغَه، فماذا يريدون؟ لا نعرف».
سافر الحريري، على أساس أنّ الكرة ليست في ملعبه، وعاد كما سافر أي أنّ الكرة ليست في ملعبه، فيما استبقت عودته إشارات رئاسية ومن قبل «التيار الوطني الحر» تؤكد أنّ الحلّ في يد الرئيس المكلف وتدعوه الى رفع «الفيتو»، متناغمةً مع تفهّم رئيس الجمهورية لمطلب نواب «اللقاء التشاوري» بالتمثيل، ومع مأخذه، أي الرئيس، على عدم استقبالهم من قبل الرئيس المكلف بقوله «لا يجوز لرئيس الجمهورية أو لرئيس مجلس النواب أو لرئيس الحكومة أن يسكّروا أبوابهم في وجه أحد».
جوُّ ما بعد عودة الحريري ما زال يلفّه الضَباب، وهو أمر شجّع البعض على الأمل في أن تؤدّي مشاوراتُ ما بعد العودة، الى وضع الحكومة على سكة الولادة، ويطيبُ لهذا البلد أن يصرّ على التفاؤل ولو بنسبة ضئيلة جداً، ذلك أنّ لبنان هو بلدُ المفاجآت، فيمكن أن تظهر مفاجأة في أيّ لحظة يأتي معها الحلّ، وثمّة محطات كثيرة تؤكد ذلك؛ في قطر بعد احداث أيار 2008، وصل الاطراف الى طريق مسدود وحزموا حقائبهم للعودة الى بيروت، إلّا أنّه مفاجأةً ظهر حلّ في اللحظة الاخيرة أدّى الى اتفاق الدوحة. وكذلك الامر في حكومتي تمام سلام ونجيب ميقاتي، كان الحلّ مفقوداًَ الى أن ظهر في اللحظات الأخيرة وبشكلٍ غير متوقع، فيمكن أن تصيبَ العدوى الملفّ الحكومي المعطّل حالياً، وتظهر إرادة التراجع والتسهيل من هذا الجانب أو ذاك.
واضح أنّ هذا التفاؤل مفتعل، ذلك أنّ هذا الرهان اشبه برهان على مستحيل تؤكّده مجموعةُ اللاءات المتصادِمة مع بعضها البعض:
– الـ»لا» الحريرية: لا لتمثيل «سنّة 8 آذار»، لا لقاء معهم، ولا تنازل ولا تراجع ولا رضوخ للضغط ولا عودة الى الوراء.
– الـ»لا» العونية: بشقّيها الرئاسي والبرتقالي: لا قبول بحصة وزارية أقل من 11 وزيراً، وحسم ذلك رئيس «التيار الوطني الحر» الوزير جبران باسيل. وبالتالي لا «تبرعات» من هذه الحصة لأيِّ طرفٍ حليفاً كان أو غير ذلك.
– الـ«لا» التشاورية: لا لأيّ حلٍّ وسط، إمّا أن يتمثل نواب اللقاء التشاوري الستة بواحد منهم، أو لا، وبالتالي لا إلغاء لهويّتها ولا لوجدونا ولا لتمثيلنا الذي أكّدته الانتخابات النيابية.
وسط هذا الجوّ الملبّد بالإرباك، ثمّة سؤال طرح على رئيس المجلس النيابي هل ما زلنا في أبجد، فأجاب: طبعاً، وربما ما قبل أبجد.. وما استطيع أن اقوله اليوم هو «خلص الكلام»، لم نترك شيئاً إلّا وقلنا، ولا دعوة الى التنبّه والحذر ممّا نحن فيه من مخاطر إلّا وأطلقناها، بحيث لم يعد هناك شيء لنقوله، فليقلّعوا شوكهم بأيديهم».