لا يعقد رئيس مجلس النواب نبيه بري مؤتمرات صحافية إلّا نادراً، فحضورُه في الموقف شِبه يومي، بل دائم، في كلّ وسائل الإعلام، ولكنّه عندما يدعو إلى مؤتمر صحافي إنّما يكون قد استجدّ لديه أمرٌ لا يحتمل التأجيل، ويُملي عليه التحذيرَ وإطلاق النفير قبل الوقوع في المحظور… والمحظور الذي استدعى إطلالتَه أمس هو الفراغ النيابي الذي بدأ يذرّ بقرنه إنْ لم يتمّ تدارُكه قبل فوات الأوان لأنه سيتحوّل فراغاً حكومياً أيضاً وربّما أكثر.
على مسافة ايام من جلسة الخامس من حزيران التي دعا بري المجلسَ النيابي اليها، وهي تقع زمنياً خارج العقد التشريعي الذي ينتهي غداً في رأي كثيرين، ولكنّه في رأي بري، سيتمدّد حتى نهاية ولاية المجلس في 19 حزيران باسترجاع المجلس «دينَه» البالغ شهراً وهو المدّة التي أجّل فيها رئيس الجمهورية العماد ميشال عون انعقاد المجلس شهراً استناداً إلى صلاحيته في المادة 59 من الدستور والتي انتهت في 15 أيار الجاري، حيث استنَد رئيس المجلس الى اجتهادات ونصوص قانونية ودستورية مأخوذة عن دستور الجمهورية الفرنسية الثالثة الذي استوحى لبنان دستورَه منها، تؤكّد «إنّ معنى كلمة تأجيل هو تأخير، فإذا ما انقضَت هذه المدة المؤجّلة يعود المجلس النيابي للانعقاد فيستمر المجلس بالانعقاد حكماً لتعويض الفترة التي أجِّلت» على حدّ قوله.
وهذا التأجيل هو دينٌ للمجلس، له حقّ استرجاعه، إذ لا تقلَّص ولاية المجلس أو تقصَّر إلّا بقانون.
لقد اعلن بري في إطلالته والمواقفِ التي اتّخذها نزولَه الى الميدان، متخلّياً، في رأي كثيرين، عن سياسة الملاطفة والمجاملة والإمرار، وقرّر من الآن وصاعداً أن لا يمرّر ايّ شيء، ولكنّه في الوقت نفسه مارَس في اطلالته الكياسة السياسية العليا مع رئيس الجمهورية محتفِظاً بحقّه في السياسة، بمعنى انّه لا يريد الدخول في خلاف مع رئيس الجمهورية، ولكنّه في الوقت نفسه ايضاً لا يريد لأحد ان يتطاول على حقّه، ولذا فهو يسعى جدّياً الى إعادة رسمِ حدود المسألة، ليس فقط في الدستور والقانون والمواد، وإنما ايضاً في جلاء المسألة سياسياً ووضعها في نصابها الحقيقي، اي انّه يريد أن يقول إنّه مع كلّ الاحترام لرئيس الجمهورية وحقوقه وصلاحياته التي ينص عليها الدستور، فإنّ المجلس النيابي هو سيّد نفسه، وبالتالي منعاً لمزيد من التداعي في تفسير الامور وتأويلها، هذه هي خريطة الطريق للمرحلة المقبلة، خصوصاً في ما يتعلق بالعلاقة بين رئيس الجمهورية والمجلس النيابي ربطاً بالصلاحيات والاجتهادات والسياسة.
ولذلك يقول بري من خلال إطلالته إنّه يعطي فرصةً، وهذه الفرصة تقول أن «لا أحد في إمكانه شطب أحد في هذا البلد، وأنّ الجميع في مركب واحد، وإذا كان هناك من يعتقد انّه في موقع المتمكّن فحذارِ الحسابات الخاطئة».
ولذلك، يرى كثير من السياسيين، أنّ ما بعد إطلالة بري في اللحظات الحاسمة التي تعيشها البلاد ليس كما قبلها، وعلى المعنيّين بتلقّي الرسالة «البرّاوية» أن يقرأوا جيداً، ليس ربطاً ببرّي فقط، بل:
أوّلاً، بطبيعة المعركة السياسية التي تُخاض.
ثانياً، بمصير العهد الذي من المفترض انه لا يسعى الى السقوط باكراً في الهاوية.
ثالثاً، بـ«حزب الله» كونه المعنيّ الاساسي بضبط قواعد الاشتباك والدفع في اتجاه الحلّ.
رابعاً، بالحريري الذي عليه ان يبادر مساهماً بفعالية في الحلّ لأنّ الاشتباك بين خصومه السياسيين إذا لم يعالَج فإنه سينعكس سلباً على الجميع وعلى مجمل العملية السياسية، ويشلّ البلد ومؤسساتها.
وبالاضافة الى كلّ ذلك، يقول بري للجميع: «إياكم ان تعتقدوا أنّي من النوع الذي يمكن أكله، ولكن هذه منّي لكم رسالة محبّة وتحذير وتصويب».
على انّ المشهد السياسي الذي ساد بعد ساعات قليلة من إطلالة بري، وتحديداً في بعبدا والسراي الحكومي، اوحى بحصول تهيُّبٍ ما من احتمال اندفاع البلاد الى خلاف حادّ، فتوقّع رئيس الجمهورية الاتفاق على قانون انتخاب قبل انتهاء ولاية المجلس، فيما تحدّثت تسريبات عن صدور مرسوم بفتحِ دورة تشريعية استثنائية قريباً «وفق الأصول»، وتزامنَت هذه التسريبات مع تحذير أطلقَه الحريري في حضور بري خلال الإفطار الرمضاني السنوي في السراي الحكومي من أنّ «العودة الى قانون «الستين» أو التمديد سيشكّلان هزيمةً لنا جميعاً أمام قواعدنا الشعبية، ويعبّر عن اهتراء سياسي لا يصبّ في مصلحتنا ومصلحة البلد»، متمنّياً الوصول الى إقرار قانون انتخابي قريباً».