ماذا كان الهدف من الهدنة؟ إيجاد مناخ ملائم للمفاوضات السياسية، وأساساً لم تكن هذه الهدنة إلا لأن الثلاثي، الروسي – الإيراني – الأسدي، استشرس على مناطق المعارضة لحظة كانت تستعد للمشاركة في مفاوضات جنيف. لم يعد هناك شك في أن الروس تقصّدوا قتل المدنيين، باستهدافهم المستشفيات والمدارس التي تؤوي مهجّرين، كما أن ممارسات الميليشيات الإيرانية وشعارات المذهبية في المواقع التي استعادتها الى سيطرة النظام، لم تترك مجالاً للشك في الخطورة البالغة لما يحصل.
أدركت المعارضة وداعموها أن الطرف الآخر دخل في ذهنية «الهجوم النهائي» لإنجاز الحسم العسكري. وفي هذه الحال علامَ التفاوض، ولماذا كانت لقاءات فيينا، ولماذا استُصدر قرار من مجلس الأمن؟ بل طُرح السؤال الأهمّ: ما هي التفاهمات السرّية بين الولايات المتحدة وروسيا، وهذا ما استدعى التفاوض مجدّداً بين جون كيري وسيرغي لافروف؟
ما كان للهدنة، ولو هشّة، أن تحصل لولا التزام فلاديمير بوتين وضغوط موسكو على الأسد والإيرانيين، حتى لو بقي هذا الالتزام ضعيفاً ومخادعاً. وما دامت الهدنة بدت ممكنة، على رغم كل الشكوك، فلماذا لا يُصار الى تثبيتها، ولماذا يستمر التحشيد والاستعداد للحظة انهيارها المتوقّعة؟ أولاً، لأن الأهداف العسكرية في خطط روسيا وحليفيها لم تتحقق بعد، بل يُراد استكمالها كعنصر ضاغط على المفاوضات. وثانياً، لأن بوتين لم يوافق على الهدنة لأسباب إنسانية، بل بشرط أن تكون مدخلاً لمفاوضات تُظهر فيها المعارضة سريعاً استعدادها لقبول التسوية السياسية، كما رسمتها روسيا وحليفاها، وكما باتت أميركا تشاركهم إياها. ومن الواضح أن إثارة واشنطن احتمال التقسيم، وموسكو احتمال الفدرلة، استهدفت خصوصاً المعارضة التي لم يُعرف لها أي طرح تقسيمي في أي مرحلة، أما النظام وحليفه الإيراني فكشفا قبل عامين مشروع «سورية المفيدة»، واستمرّا يروّجان له واستدعيا التدخل الروسي ليكون «ضماناً» له. ويتمثّل التهديد الموجّه للمعارضة في القول بأنها أمام «فرصة أخيرة» للحفاظ على «وحدة سورية»، وأنها ستحبط هذه «الفرصة» إذا أصرّت على شرط رحيل بشار الأسد للحل السياسي.
ينبغي الكثير من الغباء السياسي والتعامي عن الإجرام لتقديم الأسد على أنه «الضامن» لوحدة سورية، خصوصاً إذا كان هو نفسه لم يعد يحلم إلا بـ «سورية المفيدة» التي يعرف أنها مفلسة ولا يستطيع ابتلاعها خالية من أهلها الذين اقتلعهم منها، لكنه يراهن على الوحشية الروسية لتمكينه من الاستئثار بها أو تأمين الاستقرار فيها. ويبدو أن المنطق/ اللامنطق الروسي (والإيراني) – الأميركي يواصل تغليب معادلة «داعش – الأسد» ليدعم بقاء الأخير باعتبار أن شريراً تعرفه أفضل من شرير لا تعرفه. لكن هذا يعني في شكل واضح وفاضح، أن «الحل السياسي» المزمع مرشحٌ لأن يُبنى على إحدى كذبتين: بقاء الأسد ضرورة للقضاء على «داعش»، وبقاء الأسد ضرورة للحل السياسي… وكلا الكذبتين من صنع الإيرانيين، لأن «بقاءه» يساعده ويساعدهم في الحفاظ على «سر داعش»، كما يكفل تعطيل أي حلٍّ لا يؤمّن لهم مصالحهم. ومثلما أن تسرّع الروس أحبط المفاوضات واضطرهم للذهاب الى الهدنة، فإن أوهام الإيرانيين والأسد وحتى الأميركيين ستضطرهم الى تعديل صيغة الحل السياسي ومفهومه وأهدافه.
في الحالين، كانت مفاهيم ثورة الشعب هي التي تتغلّب، وبالتأكيد ستتغلّب، على الدسائس ومحاولات تركيب صفقات بين الأطراف الخارجية. أُريد للهدنة أن تكون مجرد ممر شكلي الى المفاوضات، كما أُريد للمفاوضات أن تكون فخّاً للمعارضة، للشعب، لمصادرة طموحاته وتحريفها، ولبيع تضحياته وطمسها كأنها لم تكن. وبعقلية التلفيق هذه، لا يمكن التفاوض ولا التوصّل الى أي حل. وفي ضوء الهدنة عاد الشعب فقال كلمته، مستعيداً تظاهراته ووقفاته السلمية كما في آذار (مارس) 2011، ومجدّداً رفع مطلبه الرئيسي بوجوب رحيل الأسد. فمع التزام موثّق بوقف إطلاق النار من جانب غالبية الفصائل المقاتلة، بما فيها «جبهة النصرة»، وعودة المدنيين الى التظاهر، برهن الشعب أنه لم يفقد اتجاه البوصلة على رغم كل ما أصابه. في المقابل، كانت الانتهاكات للهدنة تزداد خطورة: غارات الروس، براميل النظام، قصف الميليشيات الإيرانية، وعمليات قتالية لكسب مواقع جديدة… وقد شمل الإصرار العلني على إنهاء الهدنة عرقلة المساعدات الإنسانية لاثنتي عشرة منطقة محاصرة من أصل ثماني عشرة، وعدم البحث في تبادل إطلاق الأسرى، وهو أحد بنود اتفاق الهدنة.
في السنة السادسة للمحنة السورية، لم يعد العنف والقمع والإجرام حكراً على آلة القتل الأسدية، بل أصبحت دولية، فكما أخافت التظاهرات السلمية النظام، ها هي تقلق الأطراف الدولية التي لم تتوقّعها، واستشعرت بأنها تهدّد الأهداف الحقيقية للهدنة. كانت هذه الهدنة ولدت اتفاقاً أميركياً – روسياً، ثم صارت قراراً دولياً أصدره مجلس الأمن، ولأن مراقبة تنفيذه لم تُعهد الى طرف محايد، بل أبقيت في كنف الدولتين الكُبريين، فهذا ما يفسّر عدم الاكتراث بشكاوى المعارضة والمداومة على القول بأن الهدنة «صامدة». ذاك أن «الخروقات» تتمّ من جانب النظام وحلفائه، ولذا فهي حظيت بسكوتٍ، أي بتواطؤٍ أميركي – روسي صار ستيفان دي ميستورا ناطقاً باسمه وليس باسم الأمم المتحدة. فالمبعوث الدولي يعرف أن ما حققته الهدنة ضئيل جداً ولا يكفي للذهاب الى مفاوضات، إلا أنه يدافع عنه كـ «أفضل الممكن» مساهماً بدوره في الضغط على المعارضة للمجيء الى التفاوض وهي تحت ضغط ميداني.
«جنيف» قبل شهر قد لا تختلف عن «جنيف» هذا الشهر. فالسيناريو نفسه مرشحٌ للتكرار: محاولة لإطلاق التفاوض على خلفية اجتياحات وتصعيد عسكري. تسقط الهدنة عملياً في اللحظة المتوقّعة، وهذا من «تقاليد» الهدنات وتجارب وقف النار، سواء لإجبار المعارضة على الرضوخ للأمر الواقع أو لإخضاعها للابتزاز، ما لن تقبله، ففي كل الأحوال سيُستخدم التهديد الميداني للتأثير في مسار المفاوضات. لكن المعارضة ليست وحدها في وضع صعب، فالأميركيون والروس يعرفون أن محاولة تصفيتها عسكرياً غير مجدية بل تديم الصراع في أشكال مختلفة قد تكون أكثر خطورة، أي أنهم يحتاجون إليها لإعطاء شرعية لأي حل سياسي قابل للتطبيق أكثر من حاجتهم الى الأسد فاقد الشرعية أصلاً والمؤكّد أن لا دور له في مستقبل سورية. وإذا كان الروس والإيرانيون يعوّلون على «معارضين» أشرفوا على تدجينهم كـ «شركاء» بدلاء في «حكومة جديدة»، وفقاً لتعبير دي ميستورا الذي نسي فيه مفهوم «الانتقال السياسي» المثبت في كل الوثائق (بيان جنيف، بيانات فيينا، والقرار 2254).
هذه المسمّاة «حكومة» المقترحة، إذا نجح الأميركيون والروس في فرضها، ستكون تحت سلطة بشار الأسد وزمرته، وعنواناً لـ «انتصاره» مع حلفائه على شعب سورية، لا خطوة نحو إنهاء الصراع. إذا كانت موسكو تحمل في أجندتها الخفيّة ورقة إطاحة الأسد، على ما يردّد المتكهّنون أو الواهمون، فقد حان الوقت لاستخدامها. كانت المحادثة الهاتفية بين الرئيس الروسي مع قادة فرنسا وبريطانيا وألمانيا واضحة في إشارتها الى أمرين: أولهما، أن التقويم الأميركي – الروسي «الإيجابي» للهدنة ليس كافياً لاعتبارها ناجحة أو لحفز المعارضة على الذهاب الى المفاوضات. وثانيهما، أن الحل السياسي المنشود لن يتبلور في المفاوضات، إذا انعقدت، طالما أن أفقه محكومٌ بوجود الأسد… أي أن هذه اللحظة التي ينبغي أن تقرّر فيها روسيا إذا كانت تتبنّى انتقالية سياسية أو استمرارية للنظام. فالمغزى الواضح لموافقة المعارضة على التفاوض، أنها أيضاً إقرارٌ بالحفاظ على الدولة ومؤسساتها وليست قبولاً باستمرار هذا النظام أو رئيسه، وكلاهما واحد. كان اللعب على الغموض ممكناً في بعض المراحل، لكن الصراع السوري بلغ حدوده القصوى ولا بد من الوضوح، فإمّا أن يكون انتقال سياسي أو تكون «المفاوضات» مجرد خدعة روسية أخرى.