طبيعي أن لا يجد البيان الصادر عن الرئيس سعد الحريري أي صدى ايجابي لدى الساعين إلى ضرب الصيغة اللبنانية وما بقي من مؤسسات الدولة. فالبيان الذي يمكن وصفه بالتأسيسي هو بمثابة دعوة إلى مواجهة التطرّف بكل اشكاله بغض النظر عن مشاربه.
رهان سعد الحريري في النهاية، رهان على الاعتدال، في حين أن الذين يرفضون دعوته إلى «اطلاق مشاورات وطنية للاتفاق على رئيس جديد للجمهورية وانهاء الفراغ في موقع الرئاسة الأولى« يمتلكون رهانا من نوع آخر. هؤلاء يعتبرون الاعتدال عدوّهم الأول، لا لشيء سوى لأنّهم يعتاشون من التطرّف الذي يعتبرونه خير من يخدم مخططاتهم ويغطيها ويبرّر لهم التدخل في سوريا إلى جانب نظام يذبح شعبه من منطلق طائفي ومذهبي بحت.
كان ملفتا أنّ البيان صدر في وقت كانت المعارك التي يخوضها الجيش اللبناني في الشمال، خصوصاً في طرابلس، على أشّدها. صدر بيان عاقل يتسّم بالروح الوطنية في ظروف تدفع تلقائياً في اتجاه المزايدات الرخيصة.
ولكن هل همّ سعد الحريري الشارع السنّي فقط أم همّه الوطن الذي اسمه لبنان؟ تبيّن أن الهمّ الوطني هو الذي طغى على البيان. سعد الحريري رجل دولة وزعيم وطني قبل أن يكون زعيم طائفة تنتمي إلى لبنان أوّلاً. رجال الدولة يقودون الشارع ولا ينقادون له. لذلك، ما لبثت المعارك أن هدأت في طرابلس وتبيّن أن عاصمة الشمال ترفض الإرهاب والتطرّف، بل هي عاصمة الاعتدال في لبنان. عضّت طرابلس على جرحها وأكّدت تمسّكها بالدولة اللبنانية ومؤسساتها. عضّت على جرحها، على الرغم من الظلم والدمار اللذين لحقا ببعض احيائها وذلك من منطلق التمسّك بالمؤسسة العسكرية من جهة ورفض أي سلاح غير شرعي وكلّ انواع الجزر الأمنية من جهة أخرى.
قال سعد الحريري بالحرف الواحد ما لا يتجرّأ كثيرون على قوله. قال إنّ «اهل السنّة هم في اساس تكوين لبنان واستقلاله ورسالته الحضارية، ولن يعيشوا تحت أي ظرف من الظروف عقدة الاستضعاف والإقصاء، على الرغم من المحاولات الدنيئة التي استهدفت رموزهم وعملت على بناء شروخ كبيرة بين اللبنانيين عموماً والمسلمين خصوصاً. فأهل السنّة في لبنان كانوا على الدوام وما زالوا يشكلون القاعدة المتينة لأهل الاعتدال والوحدة، بل هم ركن متقدّم من اركان الصيغة التي يقوم عليها وطننا، وهم بهذا المعنى مؤتمنون على ارث قومي ووطني، لن يفرّطوا به ولن يسلموا بالتراجع عنه، مهما اشتدّت عليهم ظروف الاستقواء بالسلاح الخارجي واسلحة الخارجين على الدولة ومؤسساتها الشرعية». هل هناك من يستطيع وضع النقاط على الحروف أكثر من هذا المقطع في البيان الذي يضع مرّة أخرى حدّاً لكلّ كلام عن تطرّف سنّي يوجد من يريد أن يعتاش منه ويقتات من فتاته؟.
كان صعباً اصدار بيان يدعو إلى التعقل يتضمّن «ادانة» و«رفضا» لكل الدعوات إلى أهل السنّة من أجل الانشقاق عن الجيش. كان يمكن اللجوء إلى الاستسهال واطلاق صيحة تلو الأخرى تدعو إلى التركيز على السلبيات التي رافقت العمليات الأخيرة للجيش، ان في عرسال أو في الضنية والمنية وعكّار وطرابلس. لم يحدث شيء من هذا القبيل، لا لشيء سوى لأنّ المطلوب اليوم قبل غد قطع الطريق على كلّ «الدواعش»، بغض النظر عمّا اذا كانت سنّية أو شيعية.
باختصار شديد، هناك من يدرك تماما أنّ «الدواعش» الشيعية تعتاش من «الدواعش» السنّية. والعكس صحيح. إنّهما وجهان لعملة واحدة. وهذا ما شرحه سعد الحريري في بيانه.
هناك من يرفض الاعتراف بأنّ «داعش» ما كانت لتتمدد في سوريا والعراق بالطريقة التي تمدّدت بها لولا وجود حاضنة لها. من خلق هذه الحاضنة ممارسات النظام السوري الذي عمل كلّ ما يستطيع من أجل تصوير حربه على شعبه وكأنّها حرب على «داعش». ولذلك لم يتردد في اطلاق عناصر من «داعش» من سجونه خدمة لمصالحه حين تطلّبت الحاجة ذلك.
وفي العراق، ما كان لـ«داعش» الوصول إلى الموصل وتكريت ومشارف بغداد وتهديد اربيل، لولا الممارسات «الداعشية» التي مارستها حكومة نوري المالكي والميليشيات التابعة للأحزاب المذهبية المدعومة من ايران. قبل ذلك، كانت القرارات الأميركية المضحكة ـ المبكية التي سهّلت قيام نظام طائفي ومذهبي في العراق دفع ثمنه أهل السنّة وفي مرحلة لاحقة الأكراد.
مرّة أخرى، من الطبيعي أن يتجاهل «حزب الله» وتوابعه بيان سعد الحريري الذي تضمّن نقاطاً واضحة كلّ الوضوح تضع خريطة طريق لحماية لبنان وجعله في منأى عن الحريق السوري. تضمّن البيان كلّ ما من شأنه تأمين لبنان. اشار حتّى إلى «أنّ تحويل لبنان إلى ساحة تتساوى في الخراب مع التخريب القائم في سوريا، هو واحدة من التمنيات العزيزة على قلب النظام السوري». اضاف أنّ «المجموعات الإرهابية والمسلّحة التي تجيز لنفسها اختراق الحدود اللبنانية، والانتقام من «حزب الله» في عقر داره، أي في البلدات التي تصيب فيها المدنيين والأبرياء وتؤجج من خلالها عوامل الاحتقان المذهبي، إنّما تعمل على اعطاء «حزب الله» ذريعة جديدة لتدخّله في الحرب السورية وتوسيع نطاق عمله الأمني والعسكري في لبنان، بمثل ما تقدّم من خلال ممارساتها في مناطق سيطرتها في الداخل السوري، النموذج الأسوأ الذي يعمل على تدمير الثورة واسعاف النظام بالهدايا المجانية».
يظلّ السؤال في نهاية المطاف هل في استطاعة «حزب الله» الإقدام على خطوة من أيّ نوع كان في اتجاه حماية لبنان؟ هل يمتلك حرّية قراره للتجاوب مع ما ورد في بيان سعد الحريري؟ الجواب بكلّ بساطة أنّه لا يزال باكراً جداً دعوة الحزب إلى «وعي المخاطر التي تترتّب على التورّط المتعمّد في الحريق السوري ولفكّ الاشتباك بين الحدود اللبنانية والجبهة السورية، لأنّه بذلك فقط نحمي لبنان ونوصد كلّ الأبواب في وجه الإرهاب».
لا يمكن إلّا لمن لديه اجندة وطنية تضع مصلحة لبنان فوق أي مصلحة أخرى التجاوب مع بيان سعد الحريري. من الصعب على «حزب الله» وتوابعه الإقدام على خطوة من هذا النوع، لا لشيء، لأنّ مثل هذا النوع من الخطوات يتطلّب امتلاك ما يكفي من الشجاعة للانتقال من التفكير بلبنان كمجرّد «ساحة» ايرانية، إلى وطن يتسّع لكل ابنائه…
قال سعد الحريري ما يجب قوله. قال بكلّ بساطة أن لبنان ليس «ساحة». وقال ايضا أنّ ثمة طريقة لحماية لبنان. هل في الجانب الآخر من يريد حماية لبنان…أم خدمة ايران التي تستكثر على لبنان أن يكون لديه رئيس للجمهورية؟