IMLebanon

هل تقود ثقافة التخوين والتشكيك إلى هدر الكرامات حتى الموت؟

 

زمن الأبلسة والصهينة والأدلجة

 

تخوين وأبلسة وعمالة وصهينة وأدلجة… إنها السيمفونية الأسهل التي تتناغم نغماتها صعوداً صعوداً مع المختلف معهم سياسياً وإيديولوجياً أو عقائدياً. لكن، ألا يستلزم الكلام التخويني عقاباً؟ هل يجوز السكوت عمن ينتهك الحرمات بتخوينٍ مقصود؟ فمَن يعترض على أفعالٍ من هذا النوع هو خائن. ومن ليس مع وحدة الساحات هو عميل. ومن ليس مع «ستي» فهو حتماً في قاموسهم السياسي مع «جدي». فهل هذه سياسة أم ثقافة تخوينية أم لعبة «بيت بيوت» تُعدّ في المطابخ السياسية مع طهاة يبنون متاريس وجودية من أوراق مُذيلة بتحذير: من ليس معي فهو حتماً وحكماً ضدي؟

ها هو فارس سعيد يتعرض الى انتهاك آخر، بمنشورٍ وزعوه، مضمونه: هذا هو رئيس المجلس الوطني الصهيوني فارس أنطون سعيد. فأين النيابة العامة من منشور كهذا؟ فهل على سعيد القول كما دعاه أحد المغردين: لن يصيبني إلا ما كتب الله لي؟ هذا تطاول يستلزم رادعاً مفقوداً في بلد استبيح فيه كل شيء. وهذه ليست المرة الأولى التي يُخوّن فيها سعيد الذي يقارع بطش من يحسبون البلد ممراً لنفوذٍ أبعد من لبنان. بطريرك الموارنة بشارة الراعي تعرّض هو أيضاً الى تخوين ممنهج في كل مرة حكى فيها عن معاناة أهل البلد والطائفة. سمير جعجع خونوه وشيطنوه وألصقوا به أشدّ التهم. وأيضا سامي الجميل وسواه وسواهم… فهل الحق على الجيوش الإلكترونية والذباب الإلكتروني؟ هذا اسهل ردٍّ من المذنبين. إنه عذر أقبح من ذنب.

 

ليس أصعب من أن يوصف الآدمي بالخائن! وليس أسهل من أن تُرمى التهم، يميناً ويساراً، جزافاً! وليس أقل من تعبير «الانتهازيين» يليق بأصحاب الرسائل الملغومة التي تُبعث في اتجاه كل من يجرؤ وينتقد من يظن نفسه غير قابل للانتقاد.

 

ماذا يحدث؟ ولماذا يحدث ما يحدث؟ وماذا قد يحدث بعد في حال استمرّ المسار أعوج أعرج والاغتيال يُحلّق، بوجهيه المادي التنفيذي والنظري الاتهامي، في وجه الفكر الآخر؟

سياسة أو مشاكسة؟

 

الأستاذ في علم الإجتماع أنطوان مسرّة ينطلق من المفهوم العام لمنطق «تخوين الآخر»: هناك دائما في الحياة السياسة ثنائية، هناك الصديق والعدو، ولا سياسة بلا عداء. لكن ما يحدث في الممارسة السياسية هو الاستقطاب عبر استخدام الصديق والعدو من أجل تعبئة العامة، وتأتي الشاشة الصغيرة، الصندوق الزجاجي المفتوح فضائياً، وقنوات السوشال ميديا، لتنمي النفوذ والصراع على إدارة الشأن العام، محولة السياسة الى مشاكسة. فنسمع السجالات بدل أن نسمع: سياسة! وهذا يترافق كله مع تراجع في مفهوم الديموقراطية وفي الانتماء الوطني.

 

جميل كل هذا الكلام لكن أليس هناك وعي إجتماعي؟ أليس هناك دور للمثقفين القادرين على التمييز بين الصح والخطأ وأن ليس كل ما هو ضد هذا مع ذاك وضد ذاك مع هذا؟ أليس هناك من هو قادر على التصديق بأن هناك حقاً أطرافاً ليسوا مع حزب الله ولا مع الإخوان بل مع لبنان الدولة؟

 

أنطوان مسرة جوابه حاسم: الناس باتوا خرافاً، يصطفون بلا تدقيق في كثير من المسائل، ومن لا يتأثر هم أشخاص استثنائيون لهم فكرهم الاستثنائي وهؤلاء باتوا شبه نادرين. أصبحنا نُصنف في خانات حتى أن احداهن، وهي مذيعة، سألتني على الهواء: أستاذ مسرة أنت مع مَن؟ أجبتها: ألا تخجلين؟ أنا أولا مع نفسي وأؤيد ثانياً طروحات بعض رجال السياسة والزعماء الذين يتصرفون كرجال دولة لكني لا ولن أتبع أحداً مثل الببغاء.

 

نتذكر هنا مقولة الامام محمد مهدي شمس الدين: اذا كانت الوحدة العرقية ستؤدي الى توحيد الدول العربية في دولة واحدة، فان لبنان سيكون الدولة الثانية، لأن تنوعه واختلاف طوائفه يوجبان ان تعيش كل طائفة بحرية وان لا يشعر أحد بالنظام الاكثري… أصاب الإمام في الوصف العام لكن هل ما زال اللبنانيون يؤمنون بالتنوع؟ هل ما زال الاختلاف غنى والتباين سبيلاً نحو الأفضل والاعتدال قمة الفضائل؟

التخوين جريمة

 

ليس هناك إتهامات أقسى من التحريض على تكفير شخص أو تخوينه. هذا النوع من التحريض التخويني يبيح التعامل الإنفعالي مع صاحب التهمة وحتى قتله. هو تحريض لا يبني وطناً. فماذا يقول القانون؟ ألا يستلزم الأمر تدخل النيابة العامة؟

 

المحامي رشيد درباس، معالي وزير الشؤون الإجتماعية ونقيب محامي طرابلس سابقاً، يجيب: «التخوين مثل الشتم والقدح والذم يعاقب عليه في قانون العقوبات. مثلاً، إذا قال أحدهم عن شخص سافلاً يحق للأخير الإدعاء عليه، فكيف إذا نعت بخيانة الوطن. هذه جريمة. لكن، ما يحصل عندنا أن هكذا نعوت، والتي تصدر غالباً عبر السوشال ميديا، بدأت تذهب الى محكمة المطبوعات حيث أصبحت التفسيرات واسعة».

 

التخوين إذاً جرم ضمن خانة القدح والذم. وفي قانون المطبوعات: كل من هدد شخصاً بواسطة المطبوعات والإعلانات أو أية صورة من الصور بفضح أمر أو إفشائه أو الإخبار عنه وكان من شأن هذا الأمر أن ينال من كرامة ذلك الشخص أو شرفه أو من كرامة أقاربه أو شرفهم لكي يحمله على جلب منفعة غير مشروعة له أو لغيره، وكلّ من حاول ذلك يعاقب بالحبس من ستة أشهر الى سنتين وبالغرامة من عشرة آلاف الى خمسة عشر ألف ليرة.

إتهامات

 

والسؤال، ماذا عن حكم من يقوم بقدح وذم وتخوين شخص عبر تويتر والتيك توك والفيسبوك؟ يجيب نقيب المحامين السابق في طرابلس: «المقصود من أحكام المطبوعات ما يصدر ورقياً لكن ما حدث هو أن التخوين غالباً ما أصبح يصدر «على الهواء» عبر السوشال ميديا لهذا قلت إن تفسير أحكام المطبوعات أصبحت أوسع».

 

يحدد درباس المواد التي تتناول قضايا الذم والقدح من المادة 582 الى 586 من قانون العقوبات. فماذا تقول تلك المواد؟ هي تعاقب على الذم بأحد المقترفين بإحدى الوسائل المذكورة في المادة 209 (التي تعدّ وسائل نشر: الأعمال والحركات إذا حصلت في محل عام أو مكان مباح للجمهور أو معرّض للأنظار أو شاهدها بسبب خطأ الفاعل من لا دخل له بالفعل) بالحبس حتى ثلاثة أشهر وبالغرامة حتى مئتي ليرة أو بإحدى هاتين العقوبتين. ويقضي بالغرامة وحدها إذا لم يقع الذم علانية. ولا يسمح لمرتكب الذم تبريراً لنفسه بإثبات حقيقة الفعل موضوع الذم أو إثبات إشهاره. أما إذا كان الذم يتعلق بالوظيفة العامة وثبتت صحته فيبرأ الظنين ما خلا الذم الواقع على رئيس الدولة…

 

 

أحيانا، نتكلم في القانون ونحن عارفون في أي قعرٍ نحن فيه. ثمة رجال قانون – أمثال رشيد درباس – يرفعون الرأس لكن، لعلّ المقاربة الحقيقيّة التي يفترض أخذها في الإعتبار في مسائل التخوين والقدح والذم والإسفاف هي أننا أصبحا نتبع معايير مختلفة، نسمع ونرمي وراء ظهرنا، أو نسمع وننتظر العقاب إغتيالاً جسدياً أو معنوياً، غير آبهين بما نسمعه – ويتكرر- من نعت بالخيانة والعمالة والصهينة، بشكلٍ إستنسابي، من أيٍّ كان ولأيٍّ كان، قادر أن يؤدي الى حرب أهلية. فقدت المعايير الوطنية الموجودة لمصلحة ما يُقدّره أشخاص لا يفقهون من الوطنية شيئاً.

 

البلد راقد راكد وفق ثلاثة عناوين: أبلسة وأدلجة وتخوين. إنها عناوين المرحلة التي يستخدمها من يظنّ نفسه ممتلكاً فائضاً من القوّة بحكم تبعيته السياسية والدينية. أوليس هو من طبّق نفس العناوين مع خصومه أيام مصطفى جحا وحسين مروة ومهدي عامل ورموز المقاومة الوطنية من الشيوعيين وأهل اليسار كي تخلو له الساحة تحت شعار الممانعة؟ هو يعتمد هذه الذهنية منذ أربعين عاماً تحت عنوان: من لا يشبهني في شكلٍ أعمى فهو نقيضي. هي سياسة الإلغاء وتهشيم الآخر كي يصبح هدفاً سهلاً للإغتيال الفعلي. إنهم يستخدمون تصفية الآخر وتعريته بإسباغ صورة الشرّ المطلق عليه تمهيداً لتحويله مادة حلالاً للإغتيال.

 

ثقافة التخوين حلّت مكان ثقافة التنوع والإنفتاح والإختلاف. لبنان تغيّر وسيتغيّر بعد. فهل يجوز أن نقلب الصفحة وكأن شيئاً لم يكن؟ لا، ليس مطلوباً قمع حرية الرأي والتعبير والنقد والمعارضة السياسية لكن التخوين جريمة. إنه هدر روح من لا يقدرون عليه بدمٍ بارد. إنه سياسة إلغاء من نوع آخر. فهل دخلنا دهليز الزمن المرّ الذي يصفقون فيه لمن يُخوّن الآخر وذلك بلا أي رادع؟