IMLebanon

بين 12 و13 تشرين: حرب داخل البيت

 

مفاوضات وخفايا الساعات الأخيرة

 

بعبدا 1990

اليوم السبت 12 تشرين الأول 2019 يشارك النائب العميد المتقاعد شامل روكز عدداً من العسكريين والضباط المتقاعدين والمعارضة العونية القداس الذي يقيمونه في كنيسة الصعود في ضبيه لراحة أنفس شهداء 13 تشرين 1990. ويوم غد الأحد يحيي التيار الوطني الحر المناسبة نفسها في بلدة الحدث بمشاركة رئيسه النائب والوزير جبران باسيل. قبل ذلك التقى روكز عدداً من المعارضين المطرودين من التيار والعسكريين المتقاعدين في منزله في اللقلوق. ثم التقى باسيل عدداً آخر من الضباط المتقاعدين في اللقلوق أيضاً قبل أن يلتقيهم لاحقاً في عشاء في البترون. كل ذلك يحصل بعد 29 عاماً على 13 تشرين وفي ظل وجود العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية في قصر بعبدا، كأن الحرب صارت داخل البيت.

ليس هذا هو الفارق الوحيد بين 12 و13 تشرين. إذ كثيراً ما طرح سؤال لم يكن هناك جواب عليه: لو سلم عون بسلطة الرئيس الياس الهراوي وباتفاق الطائف هل كانت حصلت عملية 13 تشرين؟ ولماذا أرسل عبر السفير الفرنسي رينيه ألا تلك الرسالة التي يعترف فيها بسلطة الرئيس الهراوي في 12 تشرين من دون أن تصل إلى العنوان المطلوب؟ ولماذا أصر الجنرال على تجرع الهزيمة في معركة كانت من بين المعارك التي سقطت فيها الخطوط الحمر في الحروب التي دارت على أرض لبنان، على الرغم من أنه كان يعرف النتيجة؟ وهل أراد أن يؤكد ما قاله مرة للمحامي كريم بقرادوني بأنه يفضل أن يخسر أمام حافظ الأسد من أن يخسر أمام سمير جعجع؟

 

لم يكن يوم 13 تشرين يوماً مجيداً في لبنان. لا للذين تسلموا السلطة بعده ولا للذين كانوا في السلطة قبله. كان هزيمة كاملة وشاملة. هزيمة للذين تولوا تنفيذ العملية العسكرية ضد ما كان بقي من قوى لا تزال تأتمر بقيادة العماد ميشال عون وهزيمة للعماد عون الذي لم يدرك حقيقة الخطر الذي يتهدده حتى سمع هدير الطائرة السورية فوق القصر فأسرع إلى السفارة الفرنسية في الحازمية طالباً اللجوء السياسي تاركاً جنوده يستشهدون في المعركة الخاسرة.

الرئيسان الهراوي والأسد

قبل 13 تشرين

 

في كتابه “موت جمهورية” يروي النائب ألبير منصور وزير الدفاع في حكومة الرئيس سليم الحص في مرحلة 13 تشرين أنه “مساء يوم الجمعة في الثاني عشر من تشرين الأول 1990 وقّع ميشال عون وثيقة من تسعة بنود يعترف في إحدها برئاسة الياس الهراوي وبشرعيته. اعترف ميشال عون في حديث مع جريدة “الحياة” نشر في 13 تشرين الأول 1992 بصحة الوثيقة وبصحة توقيعه عليها. سلمت الوثيقة بعد أن وقعها عون إلى السفير الفرنسي في بيروت السيد رينيه ألا الذي كان يقوم بوساطة بين العماد عون والرئيس الياس الهراوي. هل سلم ألا الرسالة إلى الرئيس الهراوي؟ ولماذا لم يبلغ بها مجلس الوزراء؟ ويقيني أنه لو جمع مجلس الوزراء عشية الثالث عشر من تشرين الأول وأبلغه الوثيقة لما كان حصل هجوم الثالث عشر من تشرين، وكانت أنهيت حالة التمرد سلماً مدعماً بوفاق وطني شامل…” ليس بالإمكان تأكيد ما توقعه منصور لأن ما كتب كان قد كتب ولأن قرار الحرب والعملية كان اتخذ سلفاً ولم يكن بإمكان الرئيس الهراوي لا أن يجمع مجلس الوزراء ولا أن يغير القرار لأن السلطة الفعلية التي كانت تدير المعركة السياسية والعسكرية كانت في دمشق ولأن عون تأخر كثيراً في اتخاذ القرار وكان لا يزال يناور على رغم علمه المسبق بالقرار السوري وبتوقيت العملية وبأمر العمليات.

 

الوزير الياس حبيقة

 

في هذا الإطار يروي الوزير السابق إيلي حبيقة قصة الإتصالات بينه وبين العماد عون قبل 13 تشرين. يقول حبيقة: “رأيت عون مرتين خلال وجوده في بعبدا وقبل عملية 13 تشرين لكن الإتصالات معه كانت قائمة قبل ذلك. فقبل 13 تشرين بنحو شهرين تلقيت اتصالاً من شخص مقرب من عون. زارني الشخص في شقة كنت أسكنها في الرملة البيضاء وقال إن الجنرال يريد أن تساعده في فتح خط على الرئيس حافظ الأسد. فقلت له: هناك باب إذا فتحه الجنرال يمكن أن يصل إلى الرئيس الأسد. قال: ما هو هذا الباب؟ قلت: اتفاق الطائف… قال: ضع هذا الكلام جانباً واعتبر أن الجنرال مشى في الطائف هل هناك إمكان لمباحثات؟…” كان عون يريد لقاء مباشراً مع الأسد. إلتقى حبيقة عبد الحيلم خدام في سوريا وأطلعه على ما يريده الجنرال وأنه مستعد لزيارته والبحث في ما يطلبه. قال له خدام: “جرّب”. زار حبيقة عون في بعبدا. قال له عون:”أقعد. إعتبر أننا مشينا بالطائف فهل يبقى الياس الهراوي رئيساً للجمهورية؟… طال الحوار حول هذه النقطة. ذهب حبيقة من دون جواب محدد وعاد بعد فترة عن طريق ضهور الشوير والتقى عون في بعبدا وكانت نقطة البحث في قبول الطائف وفي رئاسة الجمهورية لا تزال تراوح مكانها حتى قال له حبيقة قبل أن يغادر: “الأمر متروك لك ولكن إذا أخذت الخيار الذي أخاف أن تتخذه أطلب منك مسألة: إذا قررت أنت الإنتحار لا تطلب من ضباطك وجنودك أن ينتحروا.

 

يتابع حبيقة روايته ويقول: “استمرت الإتصالات ولكني لم أزر قصر بعبدا. طلب مني لاحقاً أن أبلغ الجنرال عون أن العملية العسكرية التي تستهدف إزاحته جدية تماماً وأن عليه أن يرسم خياراته في ضوء هذا الواقع. جاء الطلب من مسؤول سوري قال لي: “أبلغ الجنرال عون حتى أمر العمليات. العملية العسكرية ضده صارت حتمية ولظروف كثيرة وهذا أمر العمليات وحجم القوة التي ستدخل وفي أي ساعة فلينظر إلى الواقع ويقوّم وضعه فيستنتج أنه سيخسر. أبلغته هذه المعلومات. بعثت إليه أمر العمليات لكن ضابطاً لديه قال له إن المقصود هو التهويل…”

العميد شامل روكز

 

الساعة السابعة صباحاً

 

السادسة صباح السبت بتوقيت سوريا السابعة صباحاً بتوقيت بيروت بدأت العملية. كان العميد الركن فؤاد عون في مكتبه في قيادة الجيش وكان نائباً لرئيس الأركان للتجهيز وهو واضع كتاب “ويبقى الجيش هو الحل” الذي اعتبر أنه لخص فيه طريقة نهج العماد عون في الوصول إلى قصر بعبدا. في كتابه “من ضيافة صدام إلى سجن المزة” يقول العميد عون: “كل شيء كان هادئاً في وزارة الدفاع الوطني. فجأة مرت فوق المبنى وعلى علو منخفض طائرة حربية. تركت مكتبي وأسرعت نحو القاعة الرئيسية لغرفة العمليات استطلع الأخبار. وقبل وصولي مر سرب من الطائرات فهز المبنى انفجار كبير قوي ناتج عن سقوط قنابل وصواريخ جوية وسمعت بعض طلقات الأسلحة المضادة للطائرات، تلى ذلك قصف مدفعي عنيف. دخلت القاعة الرئيسية لغرفة العمليات فوجدت نائب رئيس الأركان للعمليات العميد جان فرح ومدير المخابرات العقيد عامر شهاب وبعض ضباط مديرية العمليات وبدأت آلات الهاتف العديدة ترنّ وأصوات أجهزة الراديو تتعالى لتفيد بأن الجيش السوري مدعوماً بالطائرات والمدفعية الثقيلة، بدأ هجوماً على جميع محاور المنطقة المحررة ولتطلب الأوامر والدعم الناري، وتحريك قوى الإحتياط لسد بعض المحاور وتعزيز بعض الجبهات. لكن غرفة العمليات لم تتجاوب بسرعة وكـأنها فوجئت بالعملية الهجومية، أو أن خطتها لم تكن جاهزة سلفاً، وأوامرها التحضيرية لم تكن موزعة على قادة الألوية والجبهات، وخطة الدعم الناري المدفعي لم تكن محكمة، كما كانت عليه خلال حرب التحرير، أو أنها كانت على علم بما سيحدث وتواطأت معه، ولا عجب فرئيس منسقية النيران العميد روجيه ناصيف موجود في منزله ومدير العمليات العميد شارل عيد أيضاً…”. لعله تبرير للهزيمة من داخل الفريق المحيط بالعماد عون من خلال تحميل المسؤولية لعدد من الضباط. ولكن هل كانت الصورة على هذا النحو؟

 

في كتابه “ميشال عون حلم أم وهم؟” ينقل سركيس نعوم أنه “عند الساعة الثانية عشرة ظهراً من يوم الجمعة 12 تشرين الأول 1990، سلم أحد ضباط المخابرات غرفة العمليات في الجيش صورة أو ربما نسخة عن أمر عمليات موجه إلى القوى المعادية لشرعية عون تضمن خطة هجوم على قصر بعبدا لإنهاء التمرد العسكري في ذلك الجزء من المنطقة الشرقية. وتبين لرئيس العمليات بعد وضع الأمر على الخريطة أن نسبة صحته عالية جداً، فاتصل وكانت الساعة صارت الثالثة عشرة والدقيقة الثلاثين، بالعماد عون في القصر الجمهوري وحاول إقناعه بأن العملية العسكرية حاصلة وبالتأكيد خلال أقل من 48 ساعة. لكن الجنرال لم يقتنع بذلك واعتبر أمر العمليات المعادي مسرباً قصداً للتشويش أو للتخويف أو للتضليل (INTOX)، وأصر على موقفه مما حول المكالمة نقاشاً حاداً. وفي الساعة السادسة والدقيقة الخامسة والخمسين من صباح يوم السبت الواقع في 13 تشرين الأول 1990 تأكد الجنرال أنه كان مخطئاً في تحليله… الساعة السابعة والدقيقة الخامسة اتصل بالعميد الركن جان فرح وقال له: يا جان الطيران السوري يقصف القصر الجمهوري…”.

 

ذلك الصباح، تقول كارول داغر في كتابها “جنرال ورهان” الصادر بالفرنسية: في بعبدا استفاق الجنرال عون مذعوراً في السادسة والدقيقة الخامسة والأربعين. تباً! ما هذا؟! قفز من السرير، ارتدى بزته الكاكية اللون وهو لما يزل متورم العينين -نام الساعة الخامسة والنصف- متغضّن القسمات منفوش الشعر… ميشال. صرخ عون منادياً العقيد أبو رزق قائد الحرس الجمهوري “ماذا يحدث”؟ قال أبو رزق: “سيدي الجنرال الطائرات السورية تقصف القصر”. تسمّر عون في مكانه شاحب الوجه. “طائرات؟” تمتم…”

الوزير جبران باسيل

 

كان قائد اللواء الثامن العميد سليم كلاس في منزله القريب من قصر بعبدا عندما اتصل به عون الساعة السابعة تقريباً ليسأله: “سليم! ماذا يحصل؟ رد كلاس: “تسأل ماذا يحصل؟ الطيران السوري يقصف بعبدا واليرزة. إنهم فوق رأسك”. بعد سبع دقائق كان عون يتصل بالسفير الفرنسي رينيه ألا في السفارة الفرنسية في الحازمية ليبلغه: “أَطلبُ وقفاً لإطلاق النار. إفعل شيئاً سعادة السفير لوضع حد للمعارك. ثم أضاف هامساً: “أعتبر نفسي مهزوماً”. كان السفير ألا قد استلم ليلاً رسالة عون. اعتبر أن الوقت بات متأخراً وتركها ليتصرف بما ورد فيها في اليوم التالي ولكن اتصال عون ألغى الرسالة ومفاعيلها قبل أن يصل إلى السفارة ويذيع بيان الإستسلام.

 

في 31 تشرين الأول 2016 عاد ميشال عون إلى قصر بعبدا رئيساً للجمهورية. لم يكن الأمر انتصاراً على هزيمة 13 تشرين أو انتقاماً لها. ذلك أنه قبل ذلك كان أعلن أن لا مشكلة بينه وبين النظام السوري بعدما صار جيشه في سوريا. إذا كان معظم الكتابات والروايات التي حكيت عن 13 تشرين حملت المسؤولية للجنرال الذي لم يحسن تقدير الموقف فإن من سوء حظ الجنرال وبعدما صار رئيساً أن ينقسم مؤيدوه ومن وقفوا معه ليحتفلوا بتلك “الهزيمة”. ذلك أن المسألة لا تتعلق فقط بموالين لرئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل أو معارضين له بل بتوسع دائرة الخلاف بين صهري الجنرال روكز وباسيل في مشهد يكرس صراعاً ومعركة في البيت لا يعلم إذا كان بإمكان الجنرال أن يلغيه أو يحتويه.