بعد أقل من عام على صدور «السفير»، حزم الزميل الراحل الياس عبود، وهو ابن القرعون، وأحد أهم المحققين في جريدة «السفير» يومها، أمتعته وقصد نهر الليطاني ليجول من منبعه في العلاق، غرب بعلبك إلى مصبّه في صور جنوباً. جال عبود، الذي شاركته في التحقيقات الزميلة فاديا دعبول، على نحو مئة قرية خلال عشرة أيام، ليرسم ملامح حوض الليطاني ومعه سد القرعون وخصوصاً المواطنين الصامدين في المحافظتين المتروكتين، شقيقتي عكار وجرود جبيل وكسروان وكامل المناطق النائية في لبنان، بعيداً عن المركزية القاتلة.
بعد 42 عاماً على توثيق الزميل عبود لقصة الليطاني وسد القرعون وناسهما، عادت «السفير» إلى الناس أنفسهم وإلى المكان عينه، وليتنا لم نعد. عودة توثق اليوم لفضائح الأداء الرسمي والتدهور الدراماتيكي القاتل الذي آلت إليه حياة الحوض وناسه. 42 عاماً طوت خلالها 15 عاماً من الحرب التي أنتجت الفوضى. حرب لم تعد تشكل تبريراً لتسييب الليطاني وحوضه والحكم بالإعدام على ناسه، خاصة بعد مضي أكثر من ربع قرن على انتهائها.
روى الزميل عبود قبل 42 عاماً كيف كانت قرى البقاع والجنوب مقطّعة الأوصال عن بعضها البعض، حيث لا طرق تسهل تنقل الناس بين البلدات والقرى. عن المنصورة وجارتها غزة التي كان يفصل بينهما النهر فقط، كان عليه أن يلتف على طريق بطول خمسين كيلومتراً ليصل من غزة إلى المنصورة عن طريق جسر جب جنين، أو طريق بر الياس شتورا. اليوم يكفي ان تقطع الجسر فوق النهر بين البلدتين بأقل من دقيقة لتصل من غزة إلى المنصورة. لكن لم يعد هناك ليطاني، بل مجرى يفيض بالنفايات الصلبة والسائلة من صرف صحي ونفايات صناعية وطبية. صار الناس يهربون بعيداً عن النهر.
الفقر والحرمان اللذان رصدتهما عين عبود في كامل قرى وبلدات البقاع والجنوب ما زالا طاغيين، إلا في المناطق التي شهدت هجرة واغترابا فبنى أهلها فللاً وقصورا مهجورة من الحجر والقرميد. ملامح «بحبوحة» الاغتراب التي رصدها فريق «السفير» يومها بدت اليوم جلية بوضوح في ظل غياب التنمية الحقيقية عن المنطقة.
صحيح أن شبكة التواصل بين المحافظات تبدو اليوم عامرة بالطرقات السريعة، كما تم وصل البلدات والقرى ببعضها البعض، ولكن الحفر في الطرقات الداخلية ما زالت على حالها أو لنقل أن التعبيد العشوائي وتنفيذ المشاريع من دون مراقبة أو محاسبة فعليتين، أبقى أو أعاد الوضع إلى سالف عهده.
وبالرغم من توزع اراضي الحوض بين ملكيات كبيرة وحيازات صغيرة تحافظ على بعض «الرأسمالية الزراعية» التي رصدها فريق «السفير» يومها، وخصوصاً بعد تحسن ملكية المواطنين مع السنين وتراجع الإقطاع ونفوذه نسبياً، إلاّ أن الإمساك بمقدرات الدولة والتحكم بمشاريعها قد ارتدى لباساً مختلفاً وتحول من الإقطاع العائلي إلى الإقطاع الحزبي والطائفي والسياسي، ليبقى عامة الناس أسرى إمساكه بالسلطة وتجاذباته ومحاصصاته وزبائنيته.
ومع كارثة تلويث الليطاني التي كانت يومها، قبل 42 عاماً، متركزة على مخلفات معمل السكر في البقاع، كانت الأراضي المحاذية لنهر الليطاني هي الأغلى سعراً وقيمة. وتعود ملكيتها إلى كبار الملاكين وأصحاب النفوذ الذين جذبهم مشروع سد القرعون وتجفيف الأراضي على ضفتي الليطاني من عميق في البقاع إلى البحيرة، فاشتروا بأسعار بخسة آلاف الدونمات لينعموا بانسيابية الري بالجر، وبتسهيلات عدة، فيما تركت الأراضي القاحلة البعيدة لعامة الناس وللفقراء الذين لم تكن مياه الري تصلهم وكانوا ممنوعين حتى من ايصالها بالمضخات إلى أراضيهم.
بعد 42 عاماً ردم اهالي القرعون ومحيطها أحد أهم المشاريع بعد سد القرعون، القناة 900، التي كانت حلم المزارعين لري أراضيهم، كونها تؤمن مياه الري من البحيرة وصولاً إلى خربة قنافار، وذلك بسبب تلوث مياهها القاتل الذي أثبتت التحاليل أنه مفعم بغازات الأمونيا والميتان والكبريت السامة. إقفال القناة يرتب خسائر في البطاطا وحدها يصل إلى ملايين الدولارات.
واليوم تسجل الأراضي المحاذية لليطاني مباشرة أدنى أسعارها بعدما صار مستهلكو الخضار والفاكهة يهربون من منتجاتها المشبوهة، فيما تهجرت عشرات العائلات من منازلها المطلة على النهر بسبب الروائح الكريهة والقوارض والحشرات وتحوله إلى مكان لانتشار الأوبئة.
وصارت مياه النهر، التي كان سكان الحوض يشربون منها ويتقاتلون لأجل الحصول عليها، ما اسماها رئيس مصلحة الأبحاث الزراعية في البقاع الدكتور ميشال افرام، وبناء على تحاليل المصـــلحة العلمية، مجرد «معجونة» مكثفة من مياه الصرف الصحي ونفايات المصانع السائلة.
يومها كانت صفة إهراءات روما ما زالت تنطبق على بقاع الخير، وإن كان دعم الزراعة والطرق الزراعية المؤدية إلى الأراضي كافة شبه معدوم، ومعه أموال المشروع الأخضر ومجلس الجنوب التي تذهب إلى المتنفذين، لكن المنتجات الزراعية في حوض الليطاني اليوم أضحت موضع شك من قبل المستهلكين والمستوردين على حد سواء في ظل المعايير الموضوعة لمواصفات المياه الصالحة للري، ولنسب المعادن في المنتجات، ومعها كل فوضى المبيدات الزراعية التي تشكل عاملاً أساسياً في تلوث الليطاني ومزروعات البقاع والجنوب. ويضحك المزارعون بقاعا لدى سؤالهم عن المشروع الأخضر ليردوا :»ليش بعده موجود؟».
وفيما لم تكن شبكات مياه الشفة تصل إلى أية قرية قبل 42 عاماً، وكان الإقطاعيون والمتنفذون يقطعون المياه عن عامة الناس لري حدائق قصورهم، شهدت معظم المناطق شبكات مياه ولكنها محكومة بالتقنين من جهة، والانقطاع المستمر لأيام وشهور من جهة ثانية، والأهم نال التلوث منها، ليستخدمها المواطنون للخدمة عندما يحصلون عليها، فيما يشترون مياهاً للشفة. وقبل 42 عاماً كان سكان بعض القرى في الحوض يحملون مرضاهم لمسافة تصل أحياناً إلى ستين كيلومتراً للوصول إلى أقرب مستشفى ومستوصف. اليوم تغيرت الأحوال طبعاً. كثرت مستوصفات الجهات السياسية والدينية المدعومة من الدولة في غالبية الأحيان على حساب المؤسسات الرسمية، فيما ما زالت مستوصفات الدولة غائبة عن معظم المناطق.
أما حين تنعم بلدة ما بمستوصف رسمي فإنه يفتقد إلى مواصفات الرعاية الأولية الفعلية كما هو متعارف عليه عالمياً. هذا من دون ان نتحدث عن المستشفيات الحكومية في مناطق حوض الليطاني، التي، وكما غيرها في مناطق لبنانية أخرى، أكل الصدأ معظم معداتها قبل أن تتفق القوى السياسية على مجالس الإدارة التشغيلية وتوظيف المحسوبين عليها هنا وهناك. مستشفيات حكومية أقفلت بعض ابوابها هنا، فيما التهم الفساد والنهب بعضها الأخر هناك والنتيجة واحدة: اعتماد المواطنين على القطاع الطبي الخاص بشكل أساسي مع ما يعنيه ذلك من أعباء مالية في منطقة تفتقر لفرص العمل وانتاجها الزراعي مضروب فيما نزح معظم أهلها عنها. اما المدارس التي عرفت طريقها إلى بعض القرى والمناطق، حيث لم يعثر فريق «السفير» يومها على مدرسة واحدة تتوفر فيها شروط تتيح توصيفها بالمدرسة الصالحة، فقد أقفلت معظم المدارس أبوابها اليوم بعدما فرغت من الطلاب بسبب نزوح أهل القرى والبلدات من جهة، وتدني مستوى التعليم الرسمي من جهة أخرى.
كان الليطاني في العام 1974 «نهراً منتهباً للبحر» كما وصفه الزميل عبود. اليوم، أدى تسييب النهر وحوضه وغياب سياسة مائية فعالة إلى نهب منابعه وروافده التي تتجاوز الثلاثين رافداً على طول الحوض وعرضه، فيما امتصت الآبار الإرتوازية المرخصة والمخالفة معظم مصادر مياه الروافد ومغذيات الليطاني. تجف معظم الروافد منذ تباشير الربيع بينما كان بعضها يتدفق حتى في عز الصيف.
أما التلوث فقد طال الأبار الإرتوازية والينابيع التي تقع بقطر نحو أربعة كيلومترات من مجرى النهر بسبب حفر الصرف الصحي غير البيئية والأبار ذات القعر المفقود التي تحول إليها المياه الأسنة في بعض المناطق.
ويومها وبسبب المستنقعات على جانبي النهر، سمي حوض الليطاني بـ «حوض الملاريا» بسبب التلوث على جانبيه وتسببه بالأمراض. وتغيرت التسمية ليصبح اليوم نهر «المجاريروالنفايات السائلة الصناعية».
وفي محيط بحيرة القرعون شكا المواطنون لـ «السفير» قبل 42 عاماً استملاك أراضيهم بثلاثين قرشاً للمتر مع انشاء مصلحة الليطاني في منتصف الخمســــينيات، بينما كان يباع كيلو الفجل بخمسين قرشاً.
اليوم لم تعد القرعون مهتمة بالسبعة كيلومترات مربعة التي أكلتها البحيرة من سهلها، ولم يعد أهالي صغبين وعيتنيت وعين الجوزة وباب مارع يسألون عن الكيلومترات السبعة التي ضاعت لصالح السد أيضاً. حزم معظم هؤلاء حقائبهم وهاجر بعضهم إلى بلاد الاغتراب، فيما نزح أخرون إلى العاصمة وجبل لبنان هربا من الروائح والأمراض، ولم يبق إلا من ليس لديه خيار أخر، ومعه أولئك الذين يشدهم الحنين فيعودون أحياناً في نهاية الإسبوع.
تكمل بيروت الكبرى التي ضمت إليها النبعة وبرج حمود والضاحيتين الجنوبية والشمالية الاستنتاجات التي بانت ملامحها في استطلاع «السفير» لناس حوض الليطاني شمالاً (في البقاع) وجنوباً وصولاً إلى صور قبل 42 عاماً. الكثافة السكانية القادمة بعد الحرب والمتزايدة يوما بعد يوم من البقاع والجنوب توثق للتهجير الممنهج بسبب الإهمال واستشراء الفساد وغياب الإنماء المتوازن ومعه فرص العمل.
وأخيرا تسبب تلوث الليطاني وعلى طول مجراه البالغ 170 كيلومتراً بالقضاء ليس فقط على صحة الناس ومصادر المياه والمحاصيل الزراعية وإنما أيضاً على المقاهي والمنتزهات التي تشكل مصدر رزق لمئات العائلات جنوباً. كما قُتل كمتنفس وملجأ لبعض الترفيه غير المكلف للصامدين جنوبا.
تغيرت الأسماء والتوصيفات، لكن الفساد واحد، والتخلي لم يتغير ومعه تسييب النهر. بعض ملامح الإنماء المحدود كالطرقات ومباني المدارس والمستشفيات لم تترجم أداء تنفيذيا فعالاً على الأرض. قتل التلوث الذي ترك يستشري على مدار 42 عاماً، ليصل إلى تسليط المياه الآسنة لكامل قرى الحوض إلى الليطاني ومعها النفايات الصناعية لـ 650 منشأة في البقاع، ومعها النفايات الصلبة لغالبية المنطقة، قتل النهر والناس والزرع ومعهم المياه. هذا البقاع وذاك الجنوب كانا محرومين قبل 42 عاماً، ربما كان ناسهما يقضيان عقوبة بالأشغال الشاقة، أمنا اليوم فقد تغيرت العقوبة إلى الإعدام.