عندما اجتاز السوريون الهاربون من جحيم بشار الأسد، الحدود الأوروبية، استفاق الغرب على صدمة جيوسياسية دفعته إلى مراجعة مواقفه المشبوهة من الثورة السورية. في تلك اللحظة اكتشف الساسة في أوروبا أن حدود دمشق محاذية لعواصمهم، لكن اكتشافهم جاء متأخراً، فالملايين التي وصلت إلى أوروبا، إما غير راغبة في العودة إلى سوريا، وإما غير مسموح لها بالعودة أصلاً، وذلك نتيجة دخول روسيا الحرب السورية حماية لنظام الأسد، وتأمينها الغطاء السياسي والعسكري للنظام. هذا النظام تسبب في طرد أكثر من 9 ملايين سوري من مدنهم وقراهم؛ عملية وصفها الأسد بأنها جعلت المجتمع السوري أكثر تجانساً، كما أن موسكو وجدت بالنازحين السوريين المسلمين السنة فرصة تساعدها على تغذية العنصرية المتزايدة تجاه العرب والمسلمين لدى اليمين الأوروبي، وأداة في التأثير على بنية المجتمعات الأوروبية ثقافياً ودينياً، ومعاقبة للاتحاد الأوروبي على مواقفه الرافضة لمحاولات الهيمنة الروسية على بعض الدول التي كانت ضمن المنظمة الاشتراكية السابقة. ففي سوريا وجد القيصر الجديد فلاديمير بوتين الفرصة للرد على الحرب التي يخوضها الغرب بعنوان الأطلسي ضد مشروع التمدد الروسي؛ المشروع الذي تبناه بوتين وحوله إلى عقيدة سياسية ترتبط ثوابتها بمصالح الأمن القوي الروسي، والتي سميت الأوروآسيوية الجديدة، فمن خلالها تمت إعادة إنتاج العقيدة التوسعية الروسية القائمة تاريخياً على فكرة الإمبراطورية البرّية التي تُؤمن الوصول إلى المياه الدافئة. ففي منتصف أيلول 2015 ومن قاعدتي طرطوس وحميميم أعلنت موسكو أن الرجل المريض الذي ورث تقرحات المرحلة السوفياتية قد تعافى، وهو الآن الرجل الأقرب إلى المنطقة، يعود مندفعاً بشهوة تحقيق نصر سريع يمكنه من التحول إلى شريك مضارب في إعادة ترتيب خرائط المنطقة بعد ثورات الربيع العربي، والعنف والتطرف اللذين رافقا أحداثها. فقد راهن الرجل القريب، الذي يتجنب تكرار التجربة السوفياتية في تعاطيه مع دول المنطقة، على إظهار جديته في الدفاع عن حلفائه، وتعزيز حضوره، والتعامل ببراغماتية مع تناقضات المنطقة، التي قد تتحول في أي لحظة إلى كابوس يجبره على التخلي عن كثير من طموحاته، إذا قرر الرجل البعيد العودة إلى ممارسة دوره التقليدي في الشرق الأوسط، واستخدام الكثير من الأدوات التي تمنحه فرض مصالحه، إما من خلال وكلائه التاريخيين، أو عن طريق الاستنزاف الطويل الأمد لكل من يحاول الوقوف بوجهه. فمنذ مرحلة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، تمارس واشنطن سياسات عدم الغوص في تفاصيل الصراعات في المنطقة، وقامت بتنظيم وجودها وفق الأولويات القديمة المتعلقة بأمن إسرائيل، والجديدة المرتبطة بالاتفاق النووي مع إيران، دون الأخذ بعين الاعتبار مصالح شركائها التقليديين في الخليج العربي، يُضاف إليها فتور متعمد في العلاقة مع تركيا، وتخلّ مقصود عن دعم الشعوب العربية المطالبة بحريتها، خصوصاً في سوريا، الأمر الذي أظهر أن الانكفاء الأوبامي مدروس وممنهج، وفيه الكثير من إشارات التخلي الأميركي عن ثوابت واشنطن التاريخية في الشرق الأوسط. ومع وصول الجمهوري دونالد ترمب إلى البيت الأبيض لم تتراجع إدارته كلياً عن المنهجية الأوبامية في التعاطي مع قضايا المنطقة، ما عزز فكرة التعامل مع الدور الأميركي بوصفه الرجل البعيد، الذي يمارس دوراً انتقائياً محصوراً بنظام مصالحه فقط، فخضعت سوريا رغم كونها تشكل نقطة ارتكاز للأمن الجماعي العربي لتقاطع مصالحه مع روسيا، وهي سياسة يمكن تسميتها الترمبوتينية التي سمحت لموسكو بالإمساك بزمام المبادرة في سوريا، والتي انعكست مكاسب استراتيجية لطهران، التي تمارس دوراً تخريبياً ضد دول المنطقة وشعوبها، ودشنت مرحلة من العلاقات الإقليمية دفعت حلفاء واشنطن في الشرق الأوسط إلى الهجرة نحو موسكو، باعتبارها العاصمة الكبرى الأكثر انخراطاً في أزمات المنطقة، وتوج هذا التوجه بقرار ترمب نقل السفارة الأميركية إلى القدس المحتلة، وتقديم مزيد من الدعم للغطرسة الإسرائيلية في مواجهة قرارات الشرعية الدولية المتعلقة بمصير القدس عاصمة الدولة الفلسطينية.
هاجس الجغرافيا التي لا يمكن تطويعها، الإمكانات المحدودة والتحالفات المؤقتة تسيطر على القادة الروس المسكونين بما قاله القيصر ألكسندر الثالث: «ليس لروسيا ما تعتمد عليه سوى حليفين… جيشها وأسطولها» يجعل فكرة الانكفاء والتراجع التدريجي واردة في لحظة يواجه الكرملين خطراً استراتيجياً فعلياً يشكل تهديداً على استقراره الداخلي، وهي الورقة التي يمتلكها الرجل البعيد الذي يستند إلى ثلاثية القوة المتمثلة بالاقتصاد والجيش والإمكانات التي تُعوّض بعده الجغرافي، وتحوله إلى دولة محاذية لكل دول العالم، وعليه فإن الوقائع تتطلب إعادة قراءة المشهد الإقليمي بتأنٍ شديد ومقاربة موضوعية لقدرات الرجلين على المدى البعيد، حيث ستكشف الأيام والأحداث المُقبلة من منهما الرجل المريض.