ثمة سياق يمكن ادراج معركة الموصل فيه. بدأت المعركة بالفعل بغطاء من سلاح الجوّ الاميركي. لن يمضي وقت طويل قبل ان نرى ان هذه المدينة العراقية تحرّرت من إرهاب «داعش». ما هو ملفت ان «داعش» بدأ يختفي فجأة، تماماً كما ظهر فجأة واستطاع السيطرة على هذه المدينة العراقية المهمّة بما لا يزيد على ثلاثة آلاف مقاتل. كيف استطاع ذلك، او على الاصحّ، لماذا لم تستطع القوات العراقية التي كانت تدافع عن المدينة بآلاف الرجال والتي كانت تمتلك عتاداً عسكرياً متطوراً الصمود في وجه هذا التنظيم الإرهابي؟
لا يمكن عزل ما تشهده الموصل حالياً عن معركة حلب. الزلزال العراقي الذي بدأ في العام 2003 مستمر. لا تزال لهذا الزلزال تردداته ولا تزال له أهدافه المتمثّلة في القضاء على المدن المهمّة في المنطقة، وتحويلها اما الى مدن طاردة لاهلها، او الى مدن تحت السيطرة الايرانية كما حال دمشق وبغداد والبصرة حالياً.
ليس ظهور «داعش» ثم انكفاء هذا التنظيم سوى تتمة طبيعية للزلزال العراقي، الذي في أساسه حرب أميركية من اجل التخلّص من نظام صدّام حسين. كانت ايران شريكة في تلك الحرب. خرجت منها منتصرة. حققت انتقاماً تاريخياً على نظام، كان يجب ان يرحل. المفارقة ان إدارة بوش الابن التي لم تكن اعدت نفسها لمرحلة ما بعد سقوط النظام العراقي، قدّمت البلد على صحن فضة لإيران التي كانت شريكاً لها في الحرب.
يظل السؤال المطروح في كلّ لحظة ماذا بعد معركة الموصل؟ الخوف كلّ الخوف من ان يسيطر «الحشد الشعبي»، وهو مجموعة ميليشيات مذهبية عراقية تأخذ أوامرها من طهران مباشرة، على المدينة. سيعني ذلك تهجير ما يزيد على مليون شخص منها.
يُخشى تهجير هذا العدد الكبير من سكان المدينة، بعد معركة تتوزع فيها الأدوار بين حكومة حيدر العبادي واميركا وايران، التي يقود عسكريوها التابعون لـ»الحرس الثوري» العمليات على الأرض. هؤلاء يسميهم رئيس الوزراء العراقي «خبراء». يحصل ذلك في الوقت الذي تحصل فيه عملية تهجير منظّمة لاهل حلب ولكن بتنسيق بين ايران الموجودة على الأرض مع شبيحة النظام السوري… وسلاح الجو الروسي!
جاء دور الموصل بعد بغداد والبصرة ومدن وبلدات عراقية أخرى تعرّضت لعمليات تطهير ذات طابع مذهبي. من يزور البصرة هذه الايّام، يقول انّها صارت مدينة إيرانية. من يزور بغداد يؤكّد ان الطبيعة الديموغرافية لعاصمة الرشيد تغيّرت جذرياً. كانت بغداد مدينة تمتاز بتنوّعها وبالتوازنات القائمة داخلها بين الشيعة والسنّة، بين العرب والاكراد والتركمان. كان هناك دائماً مكان لاقلّيات فاعلة من مسيحيين وارمن واكراد. صارت الآن مدينة كئيبة لا مكان فيها سوى للحزن. صارت جامعاتها مكاناً لكلّ شيء باستثناء العلم والحصول على المعرفة وامتلاك القدرة على التطور.
امّا الموصل، التي خرج منها عدد كبير من رجال العراق المستنيرين من ذوي الكفاءات، فهي في انتظار مصيرها المحتوم، تماماً مثل حلب. الفارق بين الموصل وحلب هو سلاح الجو الذي يلعب دوره في تدمير ما بقي من المدينتين وتهجير اهلهما. سلاح الجو الذي يضرب في حلب روسي وسلاح الجو الذي يوفّر الغطاء للعمليات العسكرية على الارض في الموصل… أميركي. في الحالين، هناك من يعمل لمصلحة ايران. الاميركيون يعملون لمصلحة ايران في العراق والروس يعملون لمصلحتها في سوريا. الأخطر من ذلك كلّه، ان تركيا المعنية بالموصل وحلب، صارت في موقع المتفرّج بعد التلويح لها بالورقة الكردية!
هل يستطيع الاكراد الذين يشاركون في معركة الموصل إيجاد فارق على الأرض يؤدي الى منع عملية التهجير الكبيرة التي تستهدف سكان المدينة الذين عانوا الكثير منذ العام 2014؟
يصعب التكهن بما اذا كانت «البيشمركة« ستتمكن من لعب دور إيجابي، خصوصاً انّ «الحشد الشعبي» يمتلك مخططاً خاصاً به يصبّ في الانتقام من كلّ مدينة ذات طابع سنّي في العراق. انّه انتقام من فكرة المدينة قبل ايّ شيء آخر. هذا ما نشهده منذ حصول الزلزال العراقي في 2003، أي منذ ما يزيد على ثلاثة عشر عاماً دمُّرت خلالها او خرّبت… او توقف الاعمار في كلّ المدن الممتدة بين بغداد وبيروت. بعد بغداد، جاء دور الموصل الآن. بعد حمص وحماة، جاء دور حلب. اما دمشق، فصارت مطوقة من كلّ الجهات في ظلّ محاولات تستهدف تغيير طبيعة المدينة بشكل جذري.
لا داعي للحديث عن بيروت التي تتعرّض منذ سنوات عدة، منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري تحديدا، لمحاولات تصبّ في ترييفها وصولاً الى منعها من ان تكون محطة للعرب والأجانب. تتعرّض بيروت منذ 2005 لحملة مدروسة جعلت من إقامة رصيف فيها او تحرير احد ارصفتها من العوائق التي يضعها أصحاب المحلات، إنجازا بحدّ ذاته.
كلّ ما في الامر ان اصداء الزلزال العراقي ما زالت تتردّد. المشروع التوسّعي الايراني يتابع اندفاعه. المدن العربية كلّها هدف لهذا المشروع الذي يحظى بغطاء جوّي روسي واميركي وتنسيق أميركي ـ إسرائيلي، فيما تركيا محيّدة ومصر، التي كان يمكن ان تلعب دوراً ما على صعيد التوازن الإقليمي، في وضع لا تحسد عليه.
الصورة قاتمة والمشهد غير مريح. يفترض في اللبنانيين التمعّن في ما يدور بالقرب من بلدهم حيث سوريا تحت استعمارين روسي وايراني، يسعيان الى استغلال فرصة لا تعوّض. تتمثّل هذه الفرصة في فرض واقع جديد على الأرض امام الإدارة الاميركية وذلك الذي سيقيم في البيت الأبيض في كانون الثاني المقبل. ليس ما يجري في الموصل وحلب سوى فصل من فصول هذا السياق.. الذي يعتبر تدمير المدن العربية عموده الفقري!