IMLebanon

بين عون وجعجع: الرئاسة مدخل.. والآتي أعظم

 

لم تعُد سرّاً الإشارة الى أنّ ما يقوم به ميشال عون لا يهدف الا لوصوله الى الكرسي المخملية. لا مكان لخطة بديلة في حساباته أو في ذهنه مهما تعاظمت الضغوط والإغراءات. يفعلها أو لا يفعلها، تلك هي القضية بنظره. هذه المرة يلعبها «صولد»، فإما يكون هو سيّد القصر، وإما الشغور هو الغالب. المتغيّرات الداخلية كما الخارجية تزيده عزيمة وتصلّباً لإكمال مسارٍ، لا يرى فيه الا طريقه الى بعبدا.

لا يكترث الجنرال لما يوضع على طاولته من تحذيرات تنبّهه من إمكانية اصطدامه مرة جديدة بجدار رفض دولي قد يحول دون تحقيق مبتغاه، وبكلام آخر، من تجربة مرّة ينام على حريرها رئيساً ويستيقظ «مرشحاً مرفوضاً». ولا تعنيه الاتهامات بخوض معارك خاسرة. يكفيه ما في جعبته من معطيات وما تصله من إحداثيات مكتومة الصوت، لا يُسمع صداها إلا في صالونه الضيق، كي يرتاح للوضع، ويكمل طريقه واثق الخطوات.

بهذا المعنى، يتطلّع المتحمّسون للتفاهم، الذي وضعت لمساته النهائية يوم الجمعة الماضي، بعدما تطلب عشرات وعشرات الاجتماعات بين ابراهيم كنعان وملحم رياشي، الى نتائجه القريبة قبل البعيدة.

بنظرهم، مشهدية معراب ليست فولكلوراً تلفزيونياً يُراد منه «الضحك على الذقون» أو تسجيل مناورة جديدة على رقعة الشطرنج الرئاسية، ولا حتى تعطيل ما سبقها من مبادرات. صحيح أنّ من بين تداعياتها السريعة وقف اندفاعة الطروحات الرئاسية الموازية، لكن وقوف سمير جعجع الى جانب ميشال عون في معركته الرئاسية في هذا التوقيت بالذات، له مدلولاته الكثيرة وارتداداته، التي تتخطّى عتبة بعبدا وكرسيها.

ليس تفصيلاً بسيطاً أن يقرّر الخصمان التاريخيان، بكل ما تختزن علاقتهما من خصومات دموية واصطفافات متشابكة ومتعاركة وخيارات متناقضة ومصالح متضاربة، الالتقاء عند خطّ وسطي، بعنوان رئاسي يضيف الى رصيد الجنرال الرئاسي قوّة دفع مسيحية قد تقرّبه كثيراً من القصر، وبتفرّعات سياسية تغطّي مستقبل العلاقة بين «التيار الوطني الحر» و «القوات».

هكذ يجزم المعنيون بأنّ وثيقتَي التفاهم الناظمة للعلاقة الثنائية، أي «إعلان النيات» ومن ثم «البرنامج الرئاسي»، ستظللان جسور التنسيق التي شُيِّدت بعناية فائقة بين الفريقين، ليكون «استحقاق الموارنة» محطة من بين محطات كثيرة مرتقبة، أو بالأحرى مدخلاً لشراكة مبنية على أسس واضحة، ستخطّ بالعريض أنّ ما بعد 18 كانون الثاني لا يشبه أبداً ما قبله.

ولهذا، يبدي الثنائي المسيحي الناشئ ارتياحه للمسار الرئاسي. لا يصغيان للضجيج الإعلامي الذي يرفع الفيتوات بوجه ترشيح رئيس «تكتل التغيير والاصلاح» ويهدّ أمامه «الحيطان»، وانما يتحدثان عن معطيات اقليمية بنّاءة ومشجّعة من شأنها أن تعزّز مكانة الجنرال الترشّحية. يذهب أحد المعنيين الى حدّ التأكيد أنّ جعجع يتولى الشقّ الاقليمي من المشاورات التي فيها من الإيجابية ما يسمح باستكمالها، وتحديداً مع السعودية وبعض دول الخليج، كما يتولى التنسيق مع حلفائه، بينما يتولى «التيار الوطني الحر» التشاور مع حلفائه.

هكذا، يجزمون أنّه يمكن القول إنّ طبخة الرئاسة تُطبَخ على نار هادئة بعيداً عن الصخب، وفيها من مكونات الإنضاج ما يسمح لها بأن تقدّم على طبق الرابية، خلافاً لكل المرات السابقة. يقولون إنّها فرصة ذهبية للجمع بين التوافق المسيحي وبين التسليم الإقليمي والمحلي بسيناريو رئاسي يخرج من رحم قوى «8 آذار»، ضمن مشروع متكامل لم يسبق لأي من المرشحين أن حاكه: «وثيقة مار مخايل» التي ستطفئ قريباً شمعتها العاشرة من جهة، ووثيقتا التفاهم مع «القوات» من جهة أخرى. واستطراداً، يكون الجنرال هو الوحيد القادر على جمع ثقتَي السيد حسن نصرالله وسمير جعجع ضمن إطار سياسي يؤيدانه.

وما يزيد من فرصة الرجل هو تدرّج العلاقة مع معراب من مرتبة التواصل وتبادل الأفكار وعرض الهواجس الى مرتبة صوغ ورقة مشتركة، وصولاً الى إقرارها وإسقاط المناخ التصادمي الذي كان قائماً بين الفريقين، ومن ثم الترجمة من خلال التنسيق قبيل الجلسة التشريعية الأخيرة وتحقيق مطالب القوى المسيحية تكريساً لمبدأ التنسيق بين الحزبين، مروراً بردّة فعل «تيار المستقبل» على المسار التفاهمي المسيحي ـ المسيحي الذي عبّرت عنه المبادرة الباريسية، والتي أريد منها فصل المسارين العوني والقواتي عن بعضهما البعض خشية من نتائج هذا التنسيق المستجدّ وتعزيز مكانته.. الى أن حصلت الخطوة الثالثة تتويجاً لهذا المسار الهادئ والمتقن.

ومع ذلك، فإنّ ما كان مكتوماً في التفاهم العوني ـ القواتي أيقظ سيلاً من التساؤلات الخبيثة حول مستقبل الساحة المسيحية، لعل أهمها عن الأسباب التي قد تدفع الجنرال الى فتح يديه أمام خصمه اللدود، ومن خلفهما أبواب الجمهور المسيحي بعدما أسقطت حواجز الخصومة بضربة الترشيح القاضية.

بالنسبة للمعنيين، فإنّ المسألة تتعدى هذا الاعتبار، لأنّ حكيم معراب يتعامل مع الملف المسيحي على قاعدة أنّ العودة الى الوراء لم تعد واردة، وأنّها فرصة لن تتكرر ليتكاتف المسيحيون ويضعوا أيديهم بأيدي بعض، ليس من باب تكوين اصطفاف طائفي يواجه بقية المكونات، وانما تحقيقاً لشراكة مسيحية، ليست ثنائية فقط، بل ضمن اطار الشراكة الوطنية. وسمير جعجع بات مقتنعاً أنّ معادلة من هذا النوع لا تستوي الا إذا وصل ميشال عون الى القصر، ليكون نتاجاً مسيحياً بالدرجة الأولى، وصناعة وطنية بالدرجة الثانية.

وبالتالي، لا بدّ من كسر حلقة «الاقتتال» المسيحي ـ المسيحي الحاصل بالسياسة مذ عاد الزعيمان الى التركيبة السلطوية، والانتقال الى حلقة التفاهم والشراكة الحقيقية والتنسيق لتكوين «خميرة مسيحية» للرئاسة الأولى. واذا لم يفعلها عون وجعجع هذه المرة، فلن يكون بمقدور أحد أن يفعلها بعد الآن.

ولما ذهب «تيار المستقبل» في خياراته الى حيث لم يتوقعه الآخرون، بتبنيه ترشيح سليمان فرنجية، لم يكن مستغرباً أن تحطّ رحال «القوات» الرئاسية في الرابية، تكريساً للتفاهم الثنائي ورسماً للعلاقة المستقبلية.

هكذا يجزم المعنيون بأنّ ما يجمع خصمَي الأمس يتخطى حدود الرئاسة التي تشكل جزءاً من التفاهم من دون أن تختصره، لأنّ المساحة المشتركة بينهما تطال مسائل لا تقلّ أهمية عن الرئاسة، منها تصحيح الخلل في ممارسة السلطة بمعنى التطبيق السليم لاتفاق «الطائف»، وقانون الانتخابات، واللامركزية الإدارية، وبناء الدولة على أسس مالية وإدارية سليمة، والسياسة الخارجية…

والدليل على ذلك، أنّ المشاورات الثنائية قطعت شوطاً مهماً حول قانون الانتخابات، ويبدو أنّ هناك اقتراحَيْن جدِّيَّين على طاولة إبراهيم كنعان وملحم رياشي يفترض أنّ يبتا أمرهما ليرفع أحدهما أو كلاهما الى مرتبة المشاريع المشتركة، بعد مباركة عون وجعجع لهما.

بالنتيجة، إنّ ما قام به الثنائي كنعان ورياشي بفعل تناغم شخصيتيهما والصداقة التي تجمعهما، قد لا يحدث إلا مرات نادرة في الأزمنة السياسية. فالأول خبير قانوني في تدوير الزوايا والثاني لاعب شطرنج «حرّيف»، عرفا كيفية نقل الفريقين من حالة المواجهة الى رقعة الشراكة الواحدة. وحين التقى الأربعة في معراب، بادر جعجع ضيفَهُ «الكبير» الى القول: «عزّبتنا كتير جنرال. كل ما بدك تعزِّبْ حدا بعات إبراهيم». ليجيبه عون: «بالعكس، لما بدنا شغلة تنجح منبعت إبراهيم».

ولكثرة اجتماعاتهما، طغى لقب رياشي، الاسكندر (تيمناً باسكندر الرياشي) على اسمه، حتى راح كنعان يناديه بلقبه خلال فترة انتظار الجنرال في معراب، فضاع الجميع بحثاً عن اسكندر المجهول!