لا يمكن استغراب «الاعتراف» الذي باح به الوزير نهاد المشنوق حول أرجحية اعتماد قانون 1960، إذا كان يُراد إجراء الانتخابات في موعدها، أي في أيار المقبل. فالمشنوق، من موقعه في الداخلية، هو القادر على «بقّ البحصة» و«تبليع» الجميع حتمية قانون الـ60 لضرورات تقنيّة، ومن دون أن يُحرِج نفسه. وهكذا، تَغسل القوى السياسية أيديها من «تُهمة» الـ60.
إذا كان يُراد للانتخابات النيابية المقبلة أن تُجرى على أساس قانون جديد، فإنّ المهلة المتاحة لإقرار القانون تنتهي في منتصف شباط، أي بعد نحو شهرين ونصف الشهر من الآن. وهنا تبدو الفرص ضعيفة جداً. فالقانون الذي تتعثَّر ولادته منذ سنوات، لن يرى النور خلال أسابيع قليلة.. طبعاً إذا أتيح للحكومة أولاً أن تولد.
فإذا تأخّر تأليف الحكومة حتى منتصف الشهر الجاري، سيدخل الجميع في عطلات الأعياد، حتى نهاية الأسبوع الأول من السنة الجديدة، ما يعني أنّ الوقت سيأكل المهلة. وحتى لو نجحت المحاولات لتأليف الحكومة، فإن المسافة المتبقية سيجري استهلاكها بإعداد البيان الوزاري وعرض الحكومة على المجلس لنيل الثقة.
ولذلك، سيكون مستحيلاً إقرار قانون للانتخابات النيابية في المدى القريب. وعلى الأقل، ستكون هناك حاجة الى تأجيل الانتخابات حتى نهاية الصيف، على أمل إقرار القانون الجديد. ولكن، لا شيء يضمن التوافق حوله لأنّ كلّ طرف يريد القانون الذي يتيح له الغلبة في المجلس المقبل.
الجميع ينظر إلى قانون الانتخابات بصفته أداة أساسية في النزاع على السيطرة. فالقوى السياسية تسعى من خلاله إلى تكريس معادلة القوة على امتداد السنوات الست المقبلة من العهد، لأنّ مَن يسيطر على المجلس ستكون له القدرة على التحكّم بالحكومة وبالعهد. وهذه فرصة لا يريد أحد أن يضيّعها.
وفي شكل أوضح، إنّ الصراع الدائر اليوم على الحصص والتوازنات في داخل الحكومة العتيدة يخفي وراءه نزاعاً حول السيطرة على المجلس النيابي. وهكذا، يغرق الجميع في أزمة واحدة، لكنها مزدوجة في مظهرها: المجلس والحكومة.
فالعهد يريد أن يكون مدعوماً بأدوات السيطرة في السلطتين التشريعية والتنفيذية. وخصومه يريدون أن يكبحوا جموحه من خلال «قصقصة جوانحه» في المجلس والحكومة. وهذا هو، في العمق، جوهر التعقيدات التي تعترض انطلاق مؤسسات السلطة مع بداية عهدٍ يتعهَّد بأنه سينهي مرحلة ويبدأ أخرى.
والذين يفاوضون اليوم على الحكومة يضعون نصب أعينهم ما سيكون عليه المجلس النيابي. بل إنّ تركيبة المجلس المقبلة، على مدى أربع سنوات من عهد العماد ميشال عون، أهمّ بكثير من تركيبة حكومةٍ لن تدوم أكثر من أربعة أشهر، وذات مهمات محدَّدة ومحدودة.
وليس سرّاً أنّ قوى أساسية تفضِّل استمرار حكومة الرئيس تمام سلام، وفي وضعية تصريف الأعمال، إلى أجل غير مسمّى، أي إلى موعد الانتخابات النيابية، إذا كانت عاجزة عن تحقيق موقع وازنٍ لها في الحكومة العتيدة.
ولكن، ماذا لو تعثّرت الانتخابات النيابية مرّة أخرى، وطارت إلى أجَل غير مسمّى؟
في هذه الحال، ستكون خسارة العهد مزدوجة: حكومة تصرِّف الأعمال إلى أجل غير مسمّى، ومجلس نيابي يمدَّد له «تقنياً» لبضعة أشهر.. وربما تليها بضعة أشهر أخرى… تحت شعار الحاجة إلى وقتٍ لإنجاز القانون.
وهذا الأمر سيؤدي – في حال حصوله – إلى انطلاقة متعثِّرة وباردة جداً لعهدٍ أطلق كثيراً من الوعود بالإنجازات ومواجهة التحديات. وفي هذه الحال، سيكون الرئيس عون قد خطا في طريق التعايش مع الأمر الواقع الذي سلكه رؤساء الجمهورية بعد الطائف، وهو ما يحاول أن يتجنّبه بأيّ ثمن.
في المبدأ، لن يقبل رئيس من نوع عون أن يسقط تحت هذه التجربة، لأنها ستؤدي إلى إحراق صورته كرمز للتغيير. لكنّ المشكلة هي أنّ الأدوات التي يملكها محدّدة ومحدودة. وإذا كانت أقوى هذه الأدوات هي أن يتفاهم مع الرئيس المكلف سعد الحريري، على تأليف حكومة «أمر واقع»، فإنّ استعمال هذه الأداة لا يبدو واقعياً، وأكلافه باهظة.
إذا، إنه المأزق. وربما يكون عون الأكثر حماسةً لقانون وانتخابات في أقرب وقت ممكن، ما يتيح له تكوين كتلة نيابية كبيرة مع حلفائه في «القوات اللبنانية» تكون جبهة داعمة للعهد. ولكن، إذا أراد انتخابات في موعدها، فسيكون مضطراً إلى القبول بإجرائها على أساس الـ60.
عشية الانتخابات البلدية الأخيرة، دار الهمس في الصالونات السياسية على رغبة العديد من القوى الفاعلة في تهريب هذا الاستحقاق، على غرار تهريب الانتخابات النيابية. لكنّ ضغوطاً دولية مورست في الاتجاه المعاكس وفرضت انتخابات بلدية أدت إلى انكشاف واضح لبعض الأحجام، وإلى ولادة قوى جديدة.
المجتمع الدولي يمارس اليوم ضغوطاً لإجراء الانتخابات النيابية في موعدها. والاستجابة إليه تعني الرضوخ لقانون الأمر الواقع أي قانون 1960، لأن لا اتفاق على بديل منه حتى إشعار آخر.
ولكن، حتى ذلك الوقت، ماذا سيدور داخل لعبة المقايضات الشرسة و»قصقصة الجوانح» ما بين العهد والحكومة والمجلس؟