Site icon IMLebanon

بين انتظارات التأليف و”غربة” الناس عن السياسة بعد الانتخابات

 

“عالَمان متوازيان” في السياسة اللبنانية.

 

أحدهما يترقّب عند كل عتبة “تقطيع” اللحظة بالتي هي أحسن. أي مثلاً إجراء الإنتخابات في موعدها بدلاً من عدم إجرائها، ملء المنصب حال شغوره بدلاً من الفراغ، التيسير بدل التعطيل، وهكذا. وعلى هذا النحو، بعد أن جرت الإنتخابات النيابية، بتأخير خمس سنوات عن ميقاتها الدستوري الطبيعي، انتقل “الهمّ” رأساً نحو الإستحقاقات التالية: انتخابات رئاسة المجلس النيابي وهيئة مكتبه، ثم الإستشارات النيابية الملزمة، ثم الدخول كما في كل مرة في “رهانات التقدير” حول المدّة المطلوبة للتأليف الحكومي. يُنتظر في الأيام المقبلة أن يأخذ التواصل السياسي حول التأليف بُعداً أكثر “عملانية” من الأسبوعين الماضيين، بعد أن صار واضحاً أنّه كي تشكّل الحكومة، في مدّة معقولة، لا بدّ من الإنطلاق من توازنات حكومة ما قبل الإنتخابات كـ “مسوّدة” لتوازنات الحكومة العتيدة.

 

في المقابل، اللحظة الإقليمية الراهنة لا تتّسم بوضوح، فانسحاب الولايات المتحدة من الاتفاقية النووية مع ايران، تبعته موجة من السكون وانكباب كل فريق اقليمي على إعادة جدوَلة “حساباته” المرحلية، في انتظار النقلة الأميركية الجديدة، أو في انتظار أسلوب التفاعل الإيراني مع هذا الموقف الأميركي. أما المسارعة الروسية إلى تظهير فتيل التصادم الاسرائيلي – الايراني في سوريا كما لو أنّه استبعد، فهي مسارعة لا تزال بحاجة إلى تظهير صورتها بشكل أوثق في الأسابيع المقبلة. هل يؤخّر هذا التأرجح أو بالأحرى هذه الإنتظارية الإقليمية في عملية التأليف أو يساعد على تتميمها في وقت مناسب؟ بالمطلق، لسنا في وضعية تجعل التأليف ممتنعاً، ولسنا في وضعية تجعله ميسّراً “فوق العادة”.

 

هذا في ما عنى تقطيع كل لحظة بلحظتها بالتي هي أحسن. لكن السياسة ليست فقط هذا، وفي الأساس ليست هذا أبداً. بعيداً من أن تكون السياسة مجرّد لعبة تفادي الوقوع في الفراغ والتعطيل والمماطلة ليس إلا، فإنّها المجال الذي يخوض فيه البشر من أجل التوسيع من درجة تحكّمهم بمصائرهم، المجال الذي تتحوّل فيها إلإرادة الشعبية، توكيلاً ومراقبة ومحاسبة ومساءلة، إلى مصدر أساسي للمشروعيّات السياسية، وإلى مصدر لكل حيويّة يقوم عليها البنيان المؤسسي للدولة، والأداء الوظيفي الحسن لمرافقها وأجهزتها. وهنا لا يمكن التعامل مع هذا المعنى الأساسي للسياسة على قاعدة تقطيع كل لحظة بلحظتها، وتحاشي الفراغ ليس إلا.

 

وعلى هذا الصعيد لا بدّ من القول أنّ الأحوال ليست مشجّعة منذ سنوات طويلة في البلد، فتراجع “الإنهماك السياسي” لدى الناس لا يمكن المكابرة عليه، وحتى الصخب الإنتخابي في الأشهر الماضية، فإن قسماً منه كان مفتعلاً، أو أقلّه، كان كدار نشر تُعيد عرض بضاعتها من الأعوام السابقة في معرض كتاب من دون عناوين جديدة فعلاً. هناك حالة من غربة الرأي العام ما عاد يكابر عليها في البلد، ولا يفعل المتكلّمون عسفاً باسم هذا الرأي العام سوى مفاقمتها. لا يعني هذا أن ثمة أناساً مهتمون بتقطيع كل لحظة بلحظتها، وأناساً آخرين عازفون عن السياسة بما أنها لم تعد قضية تحكم بالمصائر وإعادة إنتاج شروط المعاش في البلد، وظروف التعددية والتداول على السلطة انطلاقاً منه. بل إن النفر وحده تراه مهتماً من ناحية بأن لا نعود فنقع في تعطيل وشغور وجمود، لكنه يشعر في نفس الوقت بغربة عن كامل المشهد، كما لو كانت السياسة بمعناها الأساسي مؤجّلة حتى أمد غير منظور.

 

“عالَمان متوازيان”. الأوّل، محكوم بأهمية تحاشي الفراغ والتعطيل والشحن على خلفيتهما، قدر المستطاع. وبالتالي الحفاظ على الإستمراريات المؤسسية. والثاني، محكوم بالفارق الواضح والمتزايد بين السياسة كمشاركة شعبية، وبين واقع لبناني محكوم بتراجع دور الناس في الصراع من أجل التحكم بمصائرها، وبكبوة على صعيد الرأي العام. الناس تفضّل أن لا ترى أزمات في رأس الهرم، لأنها تدرك أنّ الأزمات في رأس الهرم ترتد انقسامات قاعدية بلا طائل. لكن الناس باتت تدرك، بشكل أو بآخر، محدودية إسهامها في التحكّم بمصائرها هي. لا يمكن أن يكون هذا بشعور دائم، لكنه شعور كثيف في هذه اللحظة، التالية مباشرة لصخب انتخابي ظلّ أكثره منخفض درجة التسييس.