IMLebanon

بين بلفور«1».. وبلفور«2» قرنٌ من التِّيه..  

غداً الثاني من تشرين الثاني ذكرى وعد بلفور السابعة والتسعين.. وأيام كانت فلسطين قضية المناضلين والمقاومين.. قبل الإنشغال بقتل الآمنين وتشريد النساء والأطفال واغتصابهم وتدمير مدننا وقرانا.. كنا قبل سنين ليست ببعيدة نعيد تأكيد رفضنا لهذا الوعد المشؤوم ونضرب ونتظاهر ونذكّر بالحقوق المستلبة في فلسطين.. الله يرحم أيام زمان كنا صادقين أو مهابيل..

وعد بلفور كان أول ثمرة في القرن العشرين للإرهاب الذي نحاربه الآن.. ففي 22 حزيران 1917 حدثت أول عملية إرهابية موصوفة.. إذ قامت عصابة الأرجون اليهودية بتفجير فندق الملك داوود في القدس.. الذي يسكنه الضباط البريطانيون.. وأوقعت مجزرة في صفوفهم واعتبرتها بريطانيا العظمى أكبر عملية إرهابية في التاريخ الحديث.. وكان يرأس هذه العصابة مناحيم بيغن الذي كان رئيس حكومة اسرائيل عند الاجتياح الاسرائيلي عام 82.. واحتلال بيروت أول عاصمة عربية تحتلها اسرائيل ..

كانت العملية الإرهابية بتفجير فندق الملك داوود في القدس هي الرسالة التي بَعثت بها العصابات اليهودية إلى بريطانيا.. وكان الجواب سريعاً عبر ما عُرف بوعد بلفور في 2 تشرين الثاني1917.. والجدير بالذكر أنّ مؤسسة مناحيم بيغن إحتفلت في العام 2007 بذكرى مرور تسعين سنة لتأسيس ثقافة الإرهاب وحضر الاحتفال نتنياهو.. أي بعد العدوان الاسرائيلي على لبنان..

تتالت العمليات الإرهابية للعصابات اليهودية.. البالماخ والهاغاناه والارجون.. فكانت مجزرة دير ياسين وأم الفحم والمئات من الجرائم الموصوفة على إمتداد فلسطين الآمنة والطيبة والوديعة.. شأنها شأن بيروت ودمشق.. وفي تلك الأيام حيث كانت الخيبة للثورة العربية الكبرى التي أرادت بناء دولة حديثة بعد أن ثارت على الخلافة العثمانية وأسقطتها وكان على رأسها التنويريّين العرب.. إلاّ أنّ بريطانيا خذلت الحداثيين العرب وانحازت للإرهابيين اليهود..

بدأت دول سايكس بيكو تتلمّس طريقها نحو تكوين تجارب وطنية من أجل إقامة دول متأقلمة مع الخرائط الجديدة.. والخلطات المبتكرة للمجموعات الطائفية والعرقية.. ودخلت في محاولة إنصهارية لتكوين هويات وطنية.. بعد أن أعدّ لهم الإنتداب دساتير وأنظمة حكم وحاول صناعة طبقات حاكمة غير تمثيلية ..

كلّ ذلك كان يتمّ تحت وقع المجازر الإرهابية للعصابات اليهودية في فلسطين.. حتى جاءت الحرب العالمية الثانية وازدادت معها هجرة اليهود إلى فلسطين.. وبدأت مع نهاية الحرب حركات الإستقلال فاستقلّ لبنان عن فرنسا.. في حين كانت فرنسا تحت الإحتلال.. وانتهت الحرب الكبرى وأُنشئت الامم المتحدة في العام 1945.. وفي نفس العام أُنشئت جامعة الدول العربية.. وكانت الهدية الأولى للمنظمات الإرهابية الإسرائيلية هي القرار 181 الصادر عن مجلس الأمن في العام 1947.. أي قرار تقسيم فلسطين إلى دولة يهودية وأخرى عربية..

كانت النكبة الكبرى عام 48.. اذ إنهزمت الجيوش العربية في حرب فلسطين.. واحتلت اسرائيل ما يُعرف بحدود 48.. وهجّرت الشعب الفلسطيني.. الذي لا يزال يعيش في مخيمات التهجير منذ ذلك الحين.. ثم كانت حروب اسرائيل في 56 و67 و73 ووو.. واحتلال سيناء والجولان والضفة ومعها القدس الشريف.. ثم احتلت بيروت.. وضربت بغداد.. وانتهكت الأراضي التونسية بعملية إرهابية.. ولا نستطيع أن نحصي مجازرها داخل فلسطين المحتلة وانتهاكاتها لحقوق الانسان وغزة 1و2و3و4 ووو..

أردنا من هذه المراجعة إعادة تنشيط للذاكرة وليس اختصار ذلك الصراع الكبير بشواهد من هنا وهناك.. إنّما ما أردنا أن نتوقف عنده هو تلك الثقافة الإرهابية التي أسّست لها العصابات اليهودية.. وجعلت منها أمراً مربحاً.. وكيف أنّ العالم الكبير يصغر أمام الإرهاب!.. وكيف أنّ الدول والمجتمعات التي ادّعت محاربة اسرائيل الإرهابية إحترفت الإرهاب اعتقاداً منها بأنّ العالم سيكافئها كما فعل مع اسرائيل!.. والمفارقة هي أنّ اسرائيل كانت تقتل وتهجّر أعداءها.. بينما إرهابيّوننا يقتلون أهلهم ويدمرون مدنهم..

الآن عشية الذكرى السابعة والتسعين لوعد بلفور حيث تعمّ ثقافة الإرهاب بلادنا.. لا بل أصبحنا مبدعين فيها ونرتكب كلّ يوم وربما كلّ ساعة المجازر الإرهابية.. لا بل أصبحت أدياننا متّهمة بإنتاج الإرهاب.. وأخيرا سمعنا بأنّ الفقهاء أيضاً إرهابيون والمذاهب أيضاً وحتى الطرق الصوفية.. وأنّ إسرائيل واحة ديموقراطية.. وخصوصاً مع ما يجري في سوريا والعراق واليمن ولبنان.. وهي دول حاضنة للقضية الفلسطينية.. مع كلّ ذلك القتل والدمار سارعت النمسا للاعتراف بالدولة الفلسطينية.. وتلاها مجلس العموم البريطاني أيضاً.. ثم إسبانيا.. وخلال الساعات الماضية تحرّك ايضاً العديد من النواب الفرنسيين.. وستعترف فرنسا بالدولة الفلسطينية.. لتكون القضية أصبحت دولة.. والدول الحاضنة للقضية أصبحت قضية..

هكذا نكون ربحنا وعداً بدولة إفتراضية وخسرنا دولاً حقيقية.. وقد نعيد بعض اللاجئين الفلسطينيين وهجّرنا الملايين من السوريين والعراقيين واليمينيين واللبنانيين.. وبعد أن كنّا ضحايا الإرهاب أصبحنا إرهابيين.. وبعد أن كنّا تنويريين حداثيين أصبحنا ظلاميين جاهليين.. وبعد أن كنّا مؤمنين طيبين أصبحنا تكفيريين ساخطين.. وبعد أن كنّا نسعى إلى طاعة الله «عز وجل» أصبحنا نريد أن يطيعنا الناس باسم الله.. وبعد أن كنّا وحدويين تقدميين أصبحنا طائفيين انعزاليين..

أما في لبنان قد يكون الكلام موجعاً للنفس وليس للآخرين.. لأن من يقتل نفس بغير حق فكأنما قتل الناس أجمعين..وما أكثر الذين يُقتلون بغير حق في كلّ ساعة وكلّ دقيقة.. ولقد حدّثني صديق عزيز أنّ الرئيس رفيق الحريري كان يتصل به يوميا ليسأله عن «الغلّة» أي المحصول.. وكان المقصود بــ«الغلّة» كم طالب أرسل اليوم إلى الخارج ليتلقى عِلْماً يستفاد به وتلك « صدقة جارية «.. أما اليوم فالقادة يسألون عن «غلة» أخرى.. أي كم قتلتم اليوم من نسائنا وأطفالنا وشيوخنا وشبابنا..

رحمك الله يا رفيق الحريري.. واليوم 1 تشرين الثاني يوم ميلادك.. وفقراؤك في البقاع وعكار والتبانة والمنية والضنية وشبعا وصيدا يُتّهمون ويُضطهدون ويُعاقَبون.. وهذا قدر فقراء الأطراف دائماً مع من يريد أن يتحكّم بالمركز.. هكذا عوملوا بعد صعود حلف بغداد.. وهكذا أيضاً بعد سقوط الشهابية.. وهكذا أيضاً بعد الاجتياح الاسرائيلي عام 82.. وأيضاً بعد العزل الأول 98.. ولأنّهم طبيعيون فكانوا دائماً يتجدّدون كما الأعشاب البرية بعد زخات قليلة من المطر.. وكانوا دائماً ينتصرون وهذا ما فعلوه بعد الاغتيال وما بعد العزل الثاني.. ولا تزال إدارة الأزمة القديمة الجديدة تعتقد أنّها بتقطيع الأطراف تتحكم بالمدن والمركز ويسايرها في ذلك حمقى سلطات الأيام البائدة من بعض أبناء المدن والأرياف..

غداً لن يتظاهر أحد.. ولن يتذكر أحد وعد بلفور.. وربما لن يهتم أحد بالاعترافات الأوروبية بالدولة الفلسطينية ووعد بلفور الثاني الذي يأتي هدية لإرهابنا بعد ان كان بلفور الاول هدية للإرهاب اليهودي.. وهكذا يكون الإرهاب قد أصبح ثقافة شرق أوسطية تمارسه جميع المكونات الدينية والعرقية والأيديولوجية.. ونكون بين بلفور الأول 1917 وبلفور الثاني 2014 قد عشنا قرناً من التِّيه..