في كانون الأول الفائت، حدّد الرئيس الأميركي جو بايدن «مهلة أخيرة» لبنيامين نتنياهو، كي يوقف الحرب في غزة، سقفها نهاية العام 2023. فردّ عليه بطلب فترة إضافية «معقولة»، كي يُتاح له التخلص من «حماس». وأطلق تعهّدين في المقابل: تقليل حجم الخسائر البشرية، والقبول بتسوية سياسية بعد الحرب. وافقَ بايدن على مضض. واليوم، تدخل الحرب أخطر فصولها، والأميركيون صامتون.
السؤال المطروح في العديد من الأوساط هو: هل الخلاف الظاهر اليوم بين بايدن ونتنياهو، في مسألة غزة والملف الفلسطيني عموماً، حقيقي أم هو مناورة سياسية يتوزّعان فيها الأدوار؟ فإذا كان مناورة، ما هي أهدافها؟ وأما إذا كان الخلاف حقيقياً، فما حدوده ومن سينتصر فيه؟
ديبلوماسي عربي متابع يستبعد فرضية المناورة. فالخلاف بين الرجلين قديم، وهو يبدأ باختلاف الطباع الشخصية والمقاربات الفكرية، وينتهي بطريقة كل منهما في ممارسة العمل السياسي، لا سيما في مسائل الشرق الأوسط، وأوّلها الملف الفلسطيني.
نتنياهو يميني متصلّب، يتناغم مع دونالد ترامب. وهو يريد انخراط الولايات المتحدة في الشرق الأوسط بقوة، وضرب إيران وأذرعها الإقليمية. ويرفض تماماً فكرة الدولة الفلسطينية، أيّاً كان شكلها.
أما بايدن فيَتموضع وسطياً في الممارسة السياسية الداخلية، ويسعى إلى الانسحاب من رمال الشرق الأوسط، ويفضّل إبرام صفقة سياسية مع طهران بدل ضربها، ويرى أن فتح الطريق إلى السلام والتطبيع بين العرب وإسرائيل لا بد أن يقوم على حل يحظى بحد أدنى من الموافقة الفلسطينية والعربية. وهذا التنافر بين الرجلين ظهر في برودة علاقاتهما منذ أن عاد نتنياهو إلى السلطة، واليوم يبلغ ذروته في حرب غزة.
بايدن يريد طمأنة الإسرائيليين إلى أن واشنطن ستوفّر لهم ضمانة الحماية دائماً وبلا حدود. ولذلك، أرسلَ أضخم البوارج في العالم إلى المتوسط بعد عملية 7 تشرين الأول ومَد إسرائيل بدفق غير مسبوق من المساعدات.
لكن بايدن يعتبر أن مهمة «التأديب» التي يتولاها الإسرائيليون في غزة قد انتهت، وكانت أكلافها مريعة في صفوف المدنيين، ولا بد من وقفها وفتح باب التفاوض. وهذا ما يريده نتنياهو، ولكن بعد القضاء تماماً على «حماس» وتهجير قسم كبير من الغَزيين إلى سيناء، وفقاً للمشاريع التي يطرحها باحثون إسرائيليون منذ عقود، وجرى تبنّيها في «صفقة القرن»، زمن ترامب.
المثير هو أنّ نتنياهو يحتاج إلى الحرب ليبرّر استمراره في السلطة، فيما بايدن على عكس ذلك مهدّد بالخروج من البيت الأبيض بعد 10 أشهر إذا فشل في وقف الحرب وإنتاج تسوية سياسية.
وهذا التنافر في المصالح يجعل الرجلين في مواجهة ثنائية شرسة من أجل البقاء. لكن المؤكد هو أنّ نتنياهو قادر على المراوغة وإضاعة الوقت في الحرب، فيما يضطر بايدن إلى الرضوخ للأمر الواقع متحمّلاً الأكلاف داخلياً وخارجياً.
المفارقة هي أن التوتر في علاقات بايدن مع نتنياهو لم يؤد في المقابل إلى تحسن علاقاته مع الأميركيين من أصول عربية أو المسلمين، إذ يحمّلونه المسؤولية عن تغطية المجازر التي يتعرض لها المدنيون في غزة. وهذا يعني أن الرجل يخسر في البيئات اليهودية والعربية والإسلامية في آنٍ معاً، مع اقتراب الاستحقاق الانتخابي، وهو مُربك في التعاطي مع هذا الملف في هذا الاتجاه أو ذاك. وأما خصمه ترامب فيستطيع المناورة بإطلاق المواقف في اتجاهات مختلفة، وليس مجبراً على التزام أيّ منها عملانياً.
ويعتقد مراقبون أن لعبة عَض الأصابع الصامتة بين بايدن ونتنياهو وصلت إلى مستويات قياسية، وفيها يراهن كل طرف على أن الآخر سيصرخ أولاً. وإذا كانت معروفة وسائل الضغط التي يمارسها اللوبي الداعم لنتنياهو في واشنطن، فإنّ بايدن أيضاً يمتلك وسائل ضغط على نتنياهو في قلب حكومة الحرب، ومنها علاقة إدارة بايدن مع بيني غانتس الذي يزور واشنطن حالياً، مثيراً غضب نتنياهو ورفاقه.
ويعتقد المراقبون أن قدرة بايدن على فرض الخيارات على نتنياهو ستبقى محدودة، وهو في أيّ حال لن يستطيع إجباره لا على مغادرة السلطة حالياً ولا على وقف الحرب. ولكن العكس صحيح. فنتنياهو يستطيع الرهان على استمرار الدعم الأميركي لإسرائيل في حرب غزة طوال الوقت.
ولذلك، هو ثابت في موقعه، ويمضي بلا هوادة في حرب يعرف أنها ستساهم في تعميق مأزق بايدن السياسي إلى أن يسقط تلقائياً في المعركة الرئاسية المنتظرة بعد أشهر، كما تظهر غالبية المؤشرات.