«الرأي قبل شجاعة الشجعان
هو أوّل وهي المحل الثاني
فإذا هما اجتمعا لنفس حرّة
بلغت من العلياء كلّ مكان»
المتنبي
لولا قدرة الإنسان على التأقلم، ولولا حكمة تغيير الرأي والقدرة على تطوير الاقتناعات بناءً على ما يستجد من معطيات، لكانت البشرية لا تزال قابعة في عصر ما قبل الحجري، ولربما لَما اختلفت عن بقية الكائنات في مسارها. يعني أنّ المقولة الشعبية «الرجّال كلمتو كلمه»، تُشبّه عملياً الإنسان بالتيس الذي ينطح الحيط! أما الإنسان الشجاع فهو القادر على الاعتذار عندما تقول له الحكمة إنه مخطئ، وهو القادر على العودة بلا ندم من طريق أثبتت له المعطيات بأنه لا طائل له، أو أنه قد يؤدي إلى الهلاك.
هذا صحيح على المستوى الشخصي، ولكن المسؤولية والشجاعة تصبح مضاعفة عندما يكون الإنسان في موقع القيادة، وعندما تكون تبعات تعنّته بموقفه، ووقوفه عند كلمته، كارثة حتمية على مَن استأمنوه على مصيرهم وحياتهم وأرزاقهم.
في هذا السياق اخترت نموذَجين لبنانيين، الأوّل لـ»القوات اللبنانية» والثاني لـ»التيار الوطني الحر».
في أواخر الحرب الأهلية، وبعدما أدرك سمير جعجع عبثية الحرب، وأنّ الاقتناعات التي خاضت جماعته على أساسها القتال وقدّمت لأجلها الآلاف من الضحايا غير قابلة للتحقيق، وأنّ المعاندة والمكابرة لن تؤديا إلّا إلى مزيد من الضحايا المجانية، هذا طبعاً إلّا إذا حدثت معجزة انتظرها ربما ولم تأتِ، قرّر الذهاب إلى التسوية.
التسوية كانت اتفاق الطائف، والثمن الباهظ كان التخلّي عن سلاح ميليشيا، كانت أشبَه بجيش عدة وعديداً، وبالتالي التخلّي الكامل عن سلطة السلاح وعن الشعارات التي جعلت منه قائداً شعبوياً، ليتحوّل بعدها سياسياً ورجل دولة، على رغم الاعتراضات التي وصلت إلى حدّ التمرّد لدى جزء كبير من المحازبين. وعندما عرضت عليه الوزارة رفضها، وعندما احتاجت الظروف إلى موقف، تحمّل هو وحده التبعات وحمَى رفاقه من التضحيات العبثية ولم يولِ الإدبار على رغم أنّ المجال فتح له لكي يهرب ويتخلى عمّن استأمنوه على حياتهم، ودخل السجن عنهم مع علمه بأنه كان سيواجه الموت.
العماد ميشال عون، أطلق الحروب العبثية في زمن التسويات، ورفض اتفاق الطائف، وبقيَ على موقفه الممانِع إلى أن ترك الجنود والأتباع والمناصرين لمصيرهم، بدلاً من أن يتحمّل عنهم ثمن القرارات والشعارات التي أطلقها واستدرج بها الناس إلى قصر الشعب ليشكّلوا للحلم الذي تخيّلوه فيه متراساً بشرياً.
ما لنا وللماضي، فلكلّ ظروفه ومراجعاته وقراراته التي قد يندم أو لا يندم عليها، وقد يسعى إلى تصحيحها، أو يكابر ويمعن في الأذى و»من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر».
القضية اليوم هي الترشح لرئاسة الجمهورية، ولا أحد ينكر لأيّ ماروني لبناني الحلم بالكرسي، وربما يحقّ لكل منهم أن يقول إنه الأحق، ولا شك في أن العماد ميشال عون هو على رأس اللائحة.
لكنّه بثباته على موقفه «الرجولي»، أدخل البلد والرئاسة في المجهول، ولست متأكداً اليوم إن كان يعتمد على «إشارات زمن الظهور» التي ستنقذ حلمه.
في المقابل، فقد قبل سمير جعجع بتسوية تنقذ الرئاسة.
الحدث الأخير كان في قصة التمديد. يعلم الجنرال بكل المعطيات التي أدت إليه، ويعلم بأنه هو نفسه تسبّب بشكل أو بآخر بالوصول إليه من خلال فراغ سدّة الرئاسة ومن خلال تحالفاته المحلية والإقليمية، التي وضعت مصير لبنان في مهب الريح، وهو موقِن أنّ مختلف الظروف والوقائع لا تسمح بإجرائها، وأنّ عدم التمديد سيؤدي حتماً إلى انهيار ما بقيَ من السلطات. مع ذلك بقي على كلمته مُثبتاً «رجولته»، والأنكى أنه أطلق صهره لإطلاق التهم على الآخرين. سمير جعجع بكلّ تواضع، فضّل بقاء الكيان على محاولة إثبات رجولته وقَبِل بالتمديد.
هذا هو الفارق بين شجاعة الحكمة والمسؤولية وتفاهة الإسفاف والشعبوية.