IMLebanon

.. بين «داعش» وإيبولا

 

لا بدّ من العودة إلى البدء. والبدء كان الزلزال العراقي الذي ضرب المنطقة في ضوء الإحتلال الأميركي لهذا البلد قبل ما يزيد على أحد عشر عاماً. 

في السنة التي تشارف على نهايتها، ما زال الزلزال مستمرا وما زالت هناك تأثيرات لتردداته. انهار العراق وانهارت سوريا، فيما صار لبنان مهددا. انهار ما كان يسمّيه الرئيس الفرنسي الراحل فرنسوا ميتران: التوازن الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط، الممتدة من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي الذي يصر الإيراني على أنه خليج فارسي.

ما كان لهذا الزلزال ليدوم كل هذا الوقت لولا الرغبة الأميركية في ترك الأوضاع تتردى في الشرق الأوسط. 

هناك في واشنطن إدارة لا تعرف ماذا تريد. أو ربّما تعرف ماذا تريد أكثر من اللزوم، ما دامت تفضّل الإنشغال بمرض ايبولا، بين حين وآخر، بدل التركيز على تنظيم «داعش» الذي ولد من رحم السياسة الأميركية التي اختارت ـ إلى إشعار آخر ـ إعتماد سياسة الإنتظار والوقوف موقف المتفرّج على ما تشهده المنطقة. 

عطّل مرض ايبولا، حتّى الآن، الحياة في ثلاث دول إفريقية هي غينيا وليبيريا وسيراليون. وعطّلت «داعش» الحياة في ثلاث دول عربية هي العراق وسوريا ولبنان، إلى حدّ ما. بين حين وآخر، نجد الإدارة الأميركية تركّز على كيفية معالجة هذه الظاهرة. فجأة، تخرج الإدارة بتصريحات، عبر مسؤوليها، عن خطورة ايبولا على البشرية وتدعو إلى إنعقاد مجلس الأمن. فجأة أيضا، لا يعود كلام عن ايبولا. بقدرة قادر يعود الإهتمام إلى «داعش»، أي إلى «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، أو إلى «الدولة الإسلامية» التي لا حدود لها.

لم تستفق الإدارة في واشنطن على «داعش» إلاّ بعد سيطرته على جزء كبير من الأراضي السورية والعراقية مزيلا الحدود الدولية بين البلدين. إحتلّ مدينتي الموصل وتكريت وهدّد أربيل. لعب تهديد أربيل الكردية دورا حاسما في حشد التأييد الدولي للحرب على «داعش» التي يشارك فيها تحالف يضمّ ما يزيد على أربعين دولة.

ما يجمع بين «داعش» وايبولا، هو الغموض في مصدر الداء، أقلّه ظاهرا. ليس هناك في واشنطن من يريد العودة إلى الأسباب الموضوعية التي أدت إلى تمدّد «داعش» وعثور التنظيم على حاضنة له في العراق. هناك رغبة في معالجة الآثار الجانبية للمشكلة بدل الذهاب إلى الجذور. 

أكثر من ذلك، هناك رغبة اميركية في استغلال «داعش» من أجل التقرّب من ايران. هدف باراك أوباما يبدو محصورا بعقد صفقة مع ايران. بالنسبة إليه، يختزل الملف النووي الإيراني كلّ مشاكل الشرق الأوسط. وهذا ما يفسّر إلى حدّ كبير المواقف المتناقضة التي تصدر عن كبار المسؤولين الأميركيين في شأن ما أُعلن عن ضربات وجّهتها ايران من الجو لمواقع لـ»داعش» في العراق. هناك، بين الأميركيين، من يرى فائدة في هذه الغارات الإيرانية، وهناك من يصرّ على أن ايران ليست طرفا في الحرب على الإرهاب ولا يمكن القبول بها عضوا في التحالف الدولي الذي يواجه «داعش»! 

ليس معروفا ما فائدة هذه الضربات الجوية، علما أنّ ايران لا تمتلك سلاحا جوّيا فعّالا. هناك طائرات اميركية من طراز «إف » موجودة لدى ايران منذ أيّام الشاه. إنتهت صلاحية هذه الطائرات منذ فترة طويلة. لكنّ الواضح أنّ إيران تريد استخدامها في العراق، وليس في مكان آخر غير العراق، لتأكيد أنّها شريك في ادارة هذا البلد وأنّها تعتبره تحت وصايتها، بل مستعمرة من مستعمراتها، على غرار سوريا ولبنان واليمن.

جديد هو ولادة «داعش» الذي جاء من رحم «القاعدة». الجديد أيضا هو ظهور «داعش» بصفة كون هذا التنظيم لاعبا إقليميا. أمّا القديم، فهو يتمثّل في في ردود فعل إدارة أوباما التي تسعى إلى تجاهل «داعش» احيانا وإلى التركيز عليه في أحيان أخرى، كما لو أنّ الأمر مجرّد لعبة تصلح لتمرير الوقت.

لا رغبة أميركية حقيقية في التعاطي مع موضوع «داعش» بشكل جدّي. لو كانت هناك مثل هذ الرغبة، لكانت الإدارة الأميركية أيقنت باكرا أن النظام السوري و»داعش» وجهان لعملة واحدة. لا يمكن معالجة موضوع «داعش» من دون معالجة موضوع النظام السوري. بكلام أوضح. ولد «داعش» في العراق قبل العام تحت اسماء أخرى. لكنّ النظام السوري استوعب التنظيم لأسباب مرتبطة أساسا برغبته في محاربة الأميركيين في العراق. فعل كلّ ما يستطيع من أجل تقوية «داعش» وذلك قبل أن يكون هناك من سمع بهذا الإسم. تطورت الأمور مع مرور الوقت. صارت لدى النظام السوري، المرتبط عضويا بإيران، حاجة أكبر إلى «داعش» مع اندلاع الثورة في سوريا. صار النظام السوري في أمسّ حاجة إلى أن يقدّم نفسه بصفة كونه يواجه مجموعات إرهابية وليس الشعب السوري الراغب في استعادة بعض من كرامته.

إلى الآن، لم تتّخذ إدارة باراك أوباما موقفا واضحا من النظام السوري، على الرغم من كلّ ما يقوله باراك أوباما عن ضرورة التخلّص من بشّار الأسد. كذلك، لم تتّخذ الإدارة الأميركية في الواقع موقفا أساسيا وفي العمق من «داعش». 

ليس ما يدلّ على الإدارة تستوعب أنّه لا يمكن محاربة «داعش» من دون التخلّص من النظام السوري. في غياب القدرة على إتخاذ موقف من النظام السوري، ليس أمام ادارة أوباما سوى الهروب إلى إيبولا، وخطر إيبولا. مثل هذه اللعبة في غاية السهولة لسببين: الأوّل أن ايبولا لا تهدّد حقيقة العالم الغربي كما يصوّر الأميركيون ـ هناك بعض الحالات المعزولة فقط؛ السبب الآخر أنّ خطر إيبولا محصور بدول إفريقية. أين المشكلة إذا أدّى هذا المرض، أو الوباء، إلى موت عشرة آلاف أو عشرين ألف إفريقي؟ 

لا يمكن محاربة «داعش» من دون طرح سؤال أساسي مرتبط بالظروف التي سمحت بتمدّد التنظيم الإرهابي في سوريا والعراق وصولا إلى لبنان. الجواب عن هذا السؤال في غاية البساطة. ما دام «حزب الله»، وهو كناية عن ميليشيا مذهبية في لبنان، مرتبطة عضويا بإيران، سمح لنفسه بإلغاء الحدود بين لبنان وسوريا، لماذا لا يلغي السنّة السوريون والعراقيون الحدود بين البلدين الجارين؟

تبدو إدارة أوباما على استعداد للتعاطي مع كلّ شيء باستثناء القضايا الأساسية في الشرق الأوسط. لو كان هناك أي استعداد أميركي للتعاطي الجدّي مع موضوع «داعش»، لكان هناك إدراك لواقع يتمثّل في أنّه لم يكن في الإمكان قيام تنظيم من هذا النوع في سوريا والعراق في غياب من يحتضنه. 

من إحتضن «داعش» هم أهل السنّة في مناطق سورية وعراقية معيّنة. وهذا عائد إلى أن حكومة نوري المالكي التي كانت تحظي برضا أميركي وإيراني فعلت كلّ ما تستطيع لجعل السنّة يشعرون، في بلدهم، بأنّهم مواطنون من الدرجة الثانية والثالثة والرابعة…

حسنا، تخلّص الأميركيون من حكومة المالكي وجاؤوا بحيدر العبادي مكانه. هل سيكون في استطاعة الحكومة الجديدة أن تكون مختلفة في شيء عن الحكومة السابقة؟

ظهر «داعش»، لكن لا يوجد للأسف من يريد محاربة هذا التنظيم الإرهابي بجدّية باستثناء الأردن الذي تابع «أبو مصعب الزرقاوي» داخل العراق. لا يوجد في واشنطن من يريد طرح الأسئلة الحقيقية. هل الأسئلة الحقيقية مؤجلة إلى السنة ، أي إلى السنة المقبلة؟

الأسئلة الحقيقية هي الآتية: هل من رغبة في تغيير إدارة أوباما موقفها من النظام السوري، بمعنى أن أي حرب على «داعش» لا يمكن أن تنجح بوجود هذا النظام؟ هل في الإمكان جعل الحكومة العراقية حكومة لجميع العراقيين وليس للشيعة فقط. أي حكومة للسنّة والأكراد والمسيحيين والتركمان والأزيديين أيضا؟

يبقى سؤال أخير. هل في استطاعة الإدارة الأميركية إدراك أنّ الحرب على «داعش» تحتاج إلى مقاربة شاملة تأخذ في الإعتبار أنّ الشرق الأوسط ليس الملف النووي الإيراني وأن الإنشغال بهذا الملفّ لا يحلّ أي مشكلة من مشاكل المنطقة بإستثناء تلك المرتبطة بالهواجس الإسرائيلية؟

يبقى ما هو أهمّ من ذلك كلّه أنّ العالم في حاجة بالفعل إلى اكتشاف علاج لمرض إيبولا. لكنّ العالم، بما في ذلك الشرق الأوسط، في غنى عن استخدام إيبولا للتغطية على الهفوات الأميركية، خصوصا تلك المرتبطة بالتقصير في فهم ظاهرة في خطورة ما يمثّله «داعش» على كل صعيد. فهذا التنظيم بات يرمز أوّلا وأخيرا إلى العجز الأميركي عن فهم ما يدور في الشرق الأوسط من جهة والإستسلام للمشروع التوسّعي الإيراني من جهة أخرى.

تبدو الإدارة الأميركية، إلى إشعار آخر، في وضع المستسلم لإيران التي ليس ما يشير إلى أنّها متضايقة إطلاقا من الحرب الأميركية على «داعش» السنّي، ما دامت هذه الحرب تخدم «دواعش» الشيعية التي تتمدّد في كلّ المنطقة، من لبنان إلى اليمن مرورا بسوريا والعراق…

كانت السنة سنة مصيرية في تكوين الشرق الأوسط الجديد من منطلق طائفي ومذهبي للأسف الشديد. هل ايبولا خطر حقيقي على العالم؟ هل هي أخطر من إدارة أوباما التي يبدو أنّها غير مستعجلة على أي حلّ من أي نوع كان في أي مجال كان؟