لبنان الآن
بالأمس أحيت أطراف مار مخايل السادس من شباط الثاني 2006 هذه الذكرى مما أعادني إلى السادس من شباط الأول عام 84 والذي كان يوماً تأسيسياً لحقبة لبنانية جديدة.. في ذلك اليوم تجدد النزاع اللبناني- اللبناني على قواعد جديدة.. في ذلك اليوم خرجت أميركا من لبنان وغادرت البوارج الأميركية شاطىء الأوزاعي بينما كان اللبنانيون ينظرون باتجاه آخر.. أي نحو خطوط التماس الجديدة والفرز الديموغرافي الجديد والخطاب السياسي الجديد والزعامات الجديدة والهيمنات الجديدة..
جاء السادس من شباط ٨٤ بعد أن أخرج الاجتياح الاسرائيلي منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان وكنّا قد لوّحنا بالمناديل على ميناء بيروت لأبو عمار ورفاقه المغادرين إلى تونس.. وأيضاً كان لبنان بدون الرئيس بشير الجميل الزعيم المسيحي الذي اعتبر خروج الفلسطينيين من بيروت هو السّبيل لإستعادة لبنان لدولته المسلوبة الإرادة منذ اتفاق القاهرة ٦٩ الى ٨٢ مع الاجتياح الاسرائيلي.. في السادس من شباط ٨٤ كان لبنان بدون أبو عمار وبدون بشير..
جاء السادس من شباط ٨٤ بعد أن أعلن الأميركيون فشل تنفيذ إتفاق ١٧ أيار مع اسرائيل وتصريح وزير خارجية أميركا جورج شولتس بقوله «إنّنا ذاهبون إلى مكاتبنا في واشنطن ومن يريد التّحدث معنا يعرف أرقام هواتفنا».. وهذا يعني أنّ الإسرائيلي قرّر البقاء في لبنان وإعادة تجديد الصراع بعد أن أنهى عملية السلام مع مصر وسلّم طابا في ٢٥ نيسان 1982 واكتفى بهذا القدر من السلام وهو منشغل بالنزاع الجديد في لبنان ولا وقت لديه للسلام الشامل والعادل كما كان يقال..
ليس المقصود إعادة نكء الجراح والحروب والإنتفاضات.. وإعادة تشكيل إدارة جديدة للأزمة اللبنانية- اللبنانية ومعها قضية الاحتلال الإسرائيلي للجنوب والبقاع الغربي.. وطرح مسألة إعادة تكوين السلطة في لبنان.. وإجتماعات جنيف ولوزان.. وتغيير طبيعة الرؤساء والوزراء.. وبروز طبقة سياسية جديدة وتوازنات جديدة كانت وظيفتها الأولى إعادة تجديد الصراع اللبناني- اللبناني واللبناني- الإسرائيلي..
توفي الرئيس الروسي اندروبوف.. الشخصية الإستثنائية بكلّ المعايير.. في التاسع من شباط ٨٤ بينما كان يعمل على استيعاب الهزيمة التي لحقت بحلفائه في لبنان.. وخروج منظمة التحرير وسوريا من بيروت.. وقد كان جاداً بالحفاظ على الحركة الوطنية والحزب الشيوعي.. وهو من أكبر الإستثمارات السياسية في لبنان عبر تقديماته التي طالت كلّ الطوائف والمناطق.. وتخريج آلاف من أبناء لبنان من الجامعات الشيوعية.. بالاضافة إلى الدعم العسكري والسياسي المباشر.. كما كان لروسيا تأثيراً كبيراً في انتخابات الرئاسة عام ٧٠.. ومع موت اندروبوف أصبحت الحركة الوطنية هي آخر مكوّنات ماقبل ٨٢ ووحدها المكوّن غير الطائفي.. وكلّنا يعرف كيف حوصرت وأُخرجت وهيمنت التكوّنات الطائفية على كلّ الحياة السياسية في لبنان.. حكّاماً ومليشيات وبدون استثناء..
كان الرئيس أمين الجميل آخر الرؤساء الذين انتُخِبوا على القواعد اللبنانية السائدة منذ الإستقلال حتى الإجتياح.. وكان السادس من شباط 84 يوماً له ما بعده.. إذ أُديرت البلاد بالتسويات والاعتكاف والمقاطعة والمراسيم الجوالة وعمليات الفرز الطائفي وانقسام الجيش على أساس الألوية الطائفية.. وساد مفهوم الثلاثية بين المليشيات الطائفية ومعها ما عُرِف بالاتفاق الثلاثي.. وانتهينا بالحكومة العسكرية التي أنتجت الحكومتين والتوقيعين وحروب الأشقاء وغيرها من الأهوال المعروفة..
نستحضر السادس من شباط لأن معظم مكوّنات الواقع السياسي الآن هي من مواليد ذلك اليوم.. حين أشهر اللبنانيّون عدم الرغبة في العيش معاً بسلام بعد أن كنّا قد تخلّصنا من اتفاق القاهرة وتداعياته ومن الدولة الفلسطينية داخل الدولة اللبنانية والتي كانت الأقوى منها عسكرياً ومالياً وشعبياً.. وأكّد معظم الشعب اللبناني على ولائه للدولة وقوبل انتخاب بشير الجميل بالترحيب لبنانياً وعربياً.. وذهبت معظم قيادات اليسار اللبناني باتجاه المصالحة.. وكانت الدول الكبرى موجودة بجنودها المتعددة.. وهنا من الظلم تحميل حركة أمل تبعات ذلك اليوم لأنّ أطرافه كثيرة من الكبار والصغار.. محليين وعرب واقليميين ودوليين.. وقد تكون حركة أمل آنذاك الحلقة الأضعف من بين حلقات السادس من شباط ٨٤..
كان اتفاق الطائف أول عملية جدية للخروج من دولة السادس من شباط إلا أن اغتيال الرئيس رينيه معوض ورفض رئيس الحكومة العسكرية تسليم السلطة جعلا من قوى السادس من شباط والاتفاق الثلاثي شريكين كاملين للطائف مما حال دون تطبيقه بشكل كامل.. فاحتفظت قوى ٦ شباط بالسياسة الخارجية والأمن وتركت للطائف وللرئيس رفيق الحريري رفع آثار القتل والدمار عن الانسان والعمران والاقتصاد والدولة وأجهزتها وبنيتها التحتية..
قام الرئيس الحريري بمهمته على أكمل وجه وكاد أن يستوعب كل المكوّنات في الدولة الناجزة.. ثمّ كان ما كان في ١٤شباط ٢٠٠٥.. وها نحن الآن في الذكرى العاشرة للاغتيال وكلّ ما حدث خلال هذا العقد المرير من الزمان والذي يعرف تفاصيله الكبار والصغار لم يستطع ان ينال مما بناه رفيق الحريري.. وان ما حدث في الأسبوع الماضي من اتصالات إقليمية وعربية ودولية لمنع العدوان على لبنان حتى الآن والتي نعرف القليل القليل منها كان سببها التأكيد على أهمية انجازات رفيق الحريري في لبنان..
القوى الطائفية نفسها لا تزال تفكر بإعادة تكوين السلطة لأنّها لم تكن يوماً جزءًا من مسيرة إعادة بناء الدولة والمجتمع على أساس العمل والإنتاج والإعمار والاستثمار والاستقرار وعدم الاستقواء على الدولة ومؤسساتها.. يعتقد الكثيرون بأنّ لبنان خلال السنوات العشر الماضية كان بين ٨ آذار و١٤ آذار وهذا غير دقيق لأنّ كلّ قوى السادس من شباط الأول والثاني.. من الزّعماء والأحزاب والمسلحين والإعلاميين والطموحين والمتمولين والمفكرين الذين يألفون التّعامل مع الأزمات.. عادوا إلى ثقافة ٦ شباط وهي أن تتنازل عن عقلك أي التنازل عن سيادتك على نفسك وبالتالي عن وطنك.. وكانت حكومة النأي بالنفس خير تعبير عن تلك الثّقافة وبعدها قوانين الانتخاب لأنهم جميعاً لا يعرفون إلا لبنان الساحة وتناوب الطوائف على الغنائم والارتكابات بحق لبنان واللبنانيين.. أما قوى الإنماء والإعمار والدولة الجامعة والحاضنة والمدنية والشباب الواعد والطموح.. هم من ملأ الساحات وأنتج واقعاً مدنياً جديداً ورفض إغتيال رفيق الحريري في 14 شباط 2005.. وهم المتسامحون مع كلّ اللبنانيين وكلّ لبنان وغير الطائفيين..
وإلى أن يصل 6 شباط إلى 14 شباط على اللبنانيين الإنتظار..