Site icon IMLebanon

بين «حبس» اليرزة.. و«محبسة» معراب

لن يستطيع مجسم الزنزانة التي سجن فيها رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع والذي صمم ليطابق تلك الحقيقة في وزارة الدفاع، نقل الواقع المرير بقساوته وعذابه وجحيمه الحقيقي.

لا الطابق الثالث تحت الارض يشبه أعالي جبل معراب حيث المقر العام للحزب، ولا هيكلية مبنى وزارة الدفاع تشبه الدرج الحجري المشيد على الطراز المعماري القديم خصيصاً للوصول الى الزنزانة، ولا نقاء الهواء والاشجار التي تحيط بالزنزانة من كل الجهات مشابهة لما كان يحيط تلك الواقعية من عناصر أمن وحراس وموقوفين كانوا يساقون الى السجن من دون أي تهمة. اما صوت الطبيعة الهادئ والمريح للاعصاب فلا مجال لمقارنته مع صرخات وأنين المسجونين الذين كانوا يخضعون لشتى أنواع التعذيب. وبعكس كل مباني مقر الحزب الحديثة، يخيل للزائر أن الزنزانة خارج هذا النطاق الجغرافي، للمكان المحاط بكل هذه السكينة «قدسيته»، وللدرج الحجري المتعرج الذي يقود صعوداً الى الزنزانة احساس مختلف أقرب الى «محبسة» القديسين من «حبس» وزارة الدفاع في اليرزة.

اما بالانتقال الى الداخل، حيث يمر الزائر بعرض الممر المتواجد في وزارة الدفاع وطوله نفسه، ونوعية الجدران البيضاء الاسمنتية نفسها، ويصل الى عازل شفاف يفصله عن المجسمات الحمراء التي تمثل الموقوفين الذين ينتظرون دورهم للمثول امام المحكمة، قبل أن يدخل في ممر ضيق وضعت على جانبه الأسرّة الحديدية الستة نفسها للموقوفين التي استقدمت من وزارة الدفاع خصيصاً لوضعها في الزنزانة في معراب مع الاسفنج القديم والاغطية الصوفية، حتى أن زجاجة المياه الزيتية التي كانت معلقة على السرير هناك علقت مكانها هنا أيضاً. ينتهي الممر ليصل الزائر الى آلة البلانكو، جنزير معلق من السقف يربط الموقوف فيه ليتم ضربه بالآلات الحادة بهدف إجباره على «الاعتراف« بما لم يرتكبه. وعلى خلفية الجدار يبدأ بث فيديو تمثيلي لشاب وفتاة تعرضا للتعذيب.

الزنزانة رقم واحد، كانت محطة جعجع الاولى على سكة قطار الأعوام الـ11 من الاسر، حيث بقي واقفاً طيلة ثمان وأربعين ساعة، يسمع صوت كل من يدخل من الموقوفين.

يقول بيار جبور عضو الهيئة العامة التأسيسية في «القوات اللبنانية» وأحد السجناء السابقين: «ان الحراس كانوا يفتحون باب الزنزانة ليرى الموقوفون قائدهم معصوب العينين مما يؤثر على معنوياتهم«، ومن ثم يتذكر لحظة أتى صديقه مبشراً اياه بأنهما متهمان بتفجير كنيسة سيدة النجاة. يضحك جبور عند سرده القصة ويكمل طريقه مع الاعلاميين ليصل الى الغرفة الثانية المخصصة للحراس، يفتح الباب الحديدي بقوة، يحل القفل الكبير ويصر على إسماع صوته للزائرين، الذي من خلاله كان الموقوفون يعرفون بعض التحركات حينها. اما الباب الثالث حيث قضى جعجع قرابة ثماني سنوات منذ 30 ايار عام 1997 وحتى تشرين الثاني من العام 2004، فغرفة ضيقة بعرض أقل من مترين وحمام صغير بالكاد يتسع للمستلزمات الاساسية. هنا يكاد يعود الزمن الى الوراء، الى ما قبل عشر سنوات، كل ما في المكان يشعر بالخوف والوحدة القاتلة، الجدران المتعرجة والسقف العالي، السرير والغطاء الوردي القديم، حتى علب المحارم وأدوات التنظيف ورائحة الصابونة على المغسلة، والطاولة الملاصقة للباب التي تملؤها صور القديسين والمسبحة وساعة يد سوداء ما عادت تعمل. لينتقل بعد ثماني سنوات الى زنزانة رقم 6 ويبقى فيها الى حين خروجه الى الحرية، «في تمام الساعة التاسعة الا ربعاً من صباح الثلاثاء 26 تموز 2005، وبعد احدى عشرة سنة وثلاثة أشهر، خرج سمير جعجع من الاعتقال السياسي لتكتمل بحريته ثورة الارز»، كما كتب على لوحة وضعت عند آخر نقطة للزائر.

جعجع الذي عاش وتعايش لأحد عشر عاماً بنهاراتها ولياليها مع الكتب الادبية والدينية في ستة أمتار مغلقة بأبواب حديدية تحت ثالث أرض، حرص على نقل تجربته بكل تفاصيلها الى المناضلين الذين انتظروه كل هذه الاعوام وقاوموا في أحلك الظروف وأخطرها في سبيله وسبيل القضية التي حملها، وكذلك الى زوار معراب ممن يهتمون بمعرفة بعض من تاريخه، مصراً على أن يستخلص كل من يزور المكان عبراً بات هو بنفسه مقتنعاً ومؤمناً بها وعليها يسير «ماذا ينفع الانسان لو ربح العالم وخسر نفسه؟«، و «لا يعتقدن معتقد في لحظة من اللحظات بأن الله قد مات أو بأنه لا يتدخل في التاريخ، فمهما يكن الطريق طويلاً، صعباً، شاقاً ومتعرجاً فانه في نهاية المطاف لن تكون الا مشيئته وكما في السماء كذلك على الارض»، كتب سمير جعجع على لوحات وضعت في المكان.