ينعكس اختلاف جذري في الطباع والخلفيات العائلية للرئيس سعد الحريري والدكتور سمير جعجع على الأداء السياسي لكل منهما. يكفي أن والد جعجع كان عسكرياً عادياً، تحديداً في فرقة موسيقى الجيش تمكن من تعليم ولديه بفضل تفوقهما ومنح دراسية أبرزها من “لجنة جبران خليل جبران” ، صار أحدهما جوزف مهندساً فيزيائياً يعمل في “الناسا” بأميركا، والآخر سمير، صار طبيباً توقف عن الدراسة في الجامعة قبل تخرجه بأشهر، وذلك بسبب اندلاع الحرب في 1975 وانخراطه فيها. عائلة جعجع كانت الأفقر في بلدته بشري. في المقابل سعد الحريري هو ابن الرئيس رفيق الحريري، يختلف عن والده الراحل بأنه لم يعرف يوماً الفقر، كما أنه عاش في السعودية مدة طويلة في طفولته ومراهقته وشبابه، لم يعرف حروب لبنان وأهوالها.
على النقيض تماماً من الحريري، جعجع محلي، وصلب جداً، مقاتل رأى الموت بعينيه مئات المرات. قاتَلَ وقَتَل وقُتِل المئات من رفاقه وأصدقائه حوله وتحت قيادته. لعل أكبر دلالة على شخصيته أنه عاش في زنزانة انفرادية مساحتها 8 أمتار مربعة فقط بما فيها الحمام، طوال 11 سنة و5 أشهر، وخرج منها سليم الجسد والعقل وأكثر تصميماً على مواصلة ما كان يفعل. لا تسمع من جعجع إطلاقاً إن حليفه سعد الحريري وُلِدَ وفي فمه ملعقة ذهب، ولكن قد تخطر الفكرة بباله وهو يسرد مآخذه عليه: يتهرب من المواجهة العملية مع “حزب الله” – حتى لو كانت سياسية وإعلامية فقط – وكل مرة يسرع إلى تقديم تنازلات كبيرة ومفاجئة للحزب ومَن خلفه، على حساب ما يكون تحالف “قوى 14 آذار” قد توافق عليه.
هنا نموذج يعطي فكرة عن اختلاف طريقة التفكير والتصرف بينهما:
في عملية 7 أيار 2008 التي احتل فيها مسلحو “حزب الله” بيروت، أو ما كان يعرف ببيروت الغربية، اتخذ جعجع إجراءات لإغلاق مداخل بيروت (الشرقية سابقاً)، وجهّز مجموعات شبابية تتقن المواجهات وأرسل احد نوابه إلى مقر سكن الحريري في قريطم لإبلاغه أن هؤلاء الشبان حاضرون للإنتقال إلى قصره للدفاع عنه في حال تقدم إليه مسلحو “حزب الله”. في هذا الوقت وصل جعجع إلى السرايا حيث كان الرئيس فؤاد السنيورة شبه محاصر، وكان صلباً في موقفه ويفضل مثل جعجع ترك مسلحي “حزب الله” في الشوارع يومين أو ثلاثة، فقط ليدرك الحزب مدى الخطأ الذي ذهب إليه.
رفض الحريري حتى أن يسمع بعرض جعجع وذهب إلى قبول ما عرضه “حزب الله” وتوجه مع بقية الأطراف اللبنانيين إلى الدوحة حيث وافق على تسوية تحفظ عنها جعجع وثبت أنها غير مضمونة، إذ قامت على تقاسم للسلطة وتعهد من الحزب بعدم إسقاط الحكومة التي يترأسها الحريري، فإذ بالحزب يسقطها في 12 كانون الثاني 2011 باستقالة الثلث زائد واحد من الوزراء بتوقيت مهين: كان رئيس الحكومة يدخل المكتب البيضاوي في واشنطن لمقابلة الرئيس باراك أوباما.
بعد ذلك غادر الحريري لبنان إلى الرياض ولم يعد إلى بيروت إلا لماماً. نجمت عن ذلك انعكاسات سلبية على “تيار المستقبل” وحضوره وعلى “14 آذار” ككل. لطالما انتقد جعجع ولا يزال هذا الغياب الذي لا يراه مبرراً، خصوصاً أنه شخصياً لا يتوقف عند الأخطار الأمنية ويتقن اتخاذ تدابير حماية محكمة، سواء في مقر إقامته أو في تنقلاته.
وطويلة لائحة التنازلات التي يسجلها رئيس “القوات” وحلفاء آخرون على الحريري، تكفي إشارة إلى حقبة “السين- سين” المُحبطة.
لكن هؤلاء لا يسقطون من الإعتبار أهمية دور الحريري كقائد وزعيم للمسلمين السُنّة في لبنان، وهم يشيدون به معترفين بإخلاصه لفكرة “لبنان أولاً” وباعتداله الذي يفعل فعله في أوساط الطائفة المعرضة لخطر السير في ركاب التطرف بفعل عاملين كبيرين: أولاً ما يجري في سوريا من فظائع في حق السُنّة على أيدي نظام الأسد و”حزب الله” وميليشيات إيران المتنوعة، وثانياً هيمنة “حزب الله” وسلاحه على لبنان، استكباره وتعجرفه في التعامل مع سائر اللبنانيين.
في المقابل ينظر الحريري إلى سمير جعجع على أنه سياسي جشع لا ينفك يتطلع إلى المزيد من المكاسب، خصوصاً على صعيد مجلس النواب الذي يعتبره جعجع مكان صنع القرار في النظام وحيث تتحدد الأوزان. يتبرم المحيطون بالحريري من سعي رئيس “القوات” ومطالباته بأن يعامله “المستقبل” كما يتعامل “حزب الله” مع خصمه ميشال عون، فيوليه مقاعد المسيحيين النيابية كلها تقريباً ولا ينافسه عليها.
لكن رفيق الحريري أسس تياراً عابراً للطوائف وليس حزباً مذهبياً على غرار “حزب الله”، على ما يجيب مسؤولو “المستقبل” مستنكرين أي طرح يشتمون منه محاولة لحصر حق “المستقبل” في تمثيل قاعدته السنية وحدها. يقولون إن جعجع تخلى بموافقته على “اتفاق الطائف” – الذي أنهى حرب لبنان عام 1990- عن أحلامه الفيديرالية لكنه لم يتخل عن نزعة لديه إلى ما يمكن تسميتها “هوية مسيحية لبنانية” على حساب “الهوية الوطنية”. وصحيح أن نظام الطائف قال بالمناصفة بين المسلمين والمسيحيين في مجلس النواب ووظائف الدولة العليا بصرف النظر عن العدد. ومراراً كرر سعد الحريري في خطاباته عبارة لوالده الراحل “أوقفنا العدّ” ، ولكن اتفاق الطائف لم يقل بأن ينتخب المسيحيون نوابهم الـ64 والمسلمون نوابهم الـ64.
ويأخذ “المستقبليون” هنا على جعجع، بل “يعيّرونه” بتأييده مع عون والكتائب وفرنجيه ما سمي باقتراح “القانون الارثوذكسي” وفحواه أن ينتخب أبناء كل مذهب ديني نوابهم بالنظام النسبي وليس الأكثري، واعتماد لبنان كله دائرة واحدة. أي أن الدائرة الإنتخابية هي المذهب. تراجع جعجع عن هذا المشروع لاحقاً وقال إنه اضطر إلى هذه المناورة لأن “المستقبل” والحزب التقدمي الإشتراكي بقيادة وليد جنبلاط ما كانا يستمعان إلى مطالباته بضرورة وضع قانون جديد للإنتخابات يحسّن نسبة تمثيل المسيحيين في البرلمان. في النهاية اتفق الأطراف الثلاثة على مشروع قانون مشترك ومختلط، يجمع ما بين النظامين النسبي والأكثري. لكن جنبلاط أعلن أخيراً تراجعه عن الموافقة على هذا الإتفاق. وعندما أيد الحريري ترشيح النائب سليمان فرنجيه للرئاسة، فسّر جعجع أحد الدوافع بأنه الرغبة في إبقاء “قانون الستين” الإنتخابي الذي يلائم فرنجيه والحريري.
كل هذه المعطيات تعطي فكرة عن أزمة “اللاثقة” التي قادت الحليفين كل بمفرده إلى تأييد مرشح من قوى 8 آذار.
لكن ثمة ما هو شخصي، فقد حصل اصطدام بين كبرياءين. يذكّر نائب رئيس حزب “القوات” النائب جورج عدوان بأن جعجع لم يعارض ويدخل السجن فقط بسبب رفضه سوء تطبيق اتفاق الطائف على يد النظام السوري بل أيضاً بسبب رفضه أسلوب التعامل الإستعلائي معه، والذي لم يقم له اعتباراً.
وثبت من أسلوب تعامل الحريري مع جعجع في موضوع ترشيح فرنجيه أنه لا يعرف حليفه جيداً ولم يتحسب لما يمكن أن يفعله لإسقاط هذا الترشيح. كما أن حلقة المستشارين حول الحريري إما غلبت مصالحها الشخصية، أو استخفت بجعجع وقدرته على المناورة، فباغتها وخطف المبادرة إلى معراب.
(فصول من دراسة أطول).