ليست القضية في قانون الانتخاب العودة إلى «الستين»، القضية أبعد من ذلك، وربما أخطر، وعنوانها اليوم «العودة» إلى «اتفاق الطائف»، وتطبيق ما تبقّى منه، في عزّ ذهاب البعض كثيراً في التسويق لـ»المؤتمر التأسيسي»، كلّما انسدَّ الأفق السياسي، لزوم «تغيير النظام»، والإطاحة بـ»المناصفة» لحساب «المثالثة»، وما أدراك ما «المثالثة»!
أسئلة كثيرة طُرحت في الأيام الماضية عن توقيت عراضة «حزب الله» الحدودية، ومخاطرها لجهة خرق القرار 1701 واستدراج عدوان إسرائيلي جديد، في موازاة سيلٍ من علامات الإستفهام عن «سرّ» الاستفاقة المفاجئة والضاغطة لمجموعة قضايا مطلبية دفعة واحدة، ومن يحرّكها، ومخاطرها على السلم الأهلي في لحظة شديدة التعقيد داخلياً وخارجياً، خصوصاً بعد اعتصام «شاحنات الكسارات».
يقود التبصّر في الأسئلة إلى جواب واحد، يبدأ بـ»اتفاق الطائف» وينتهي به، بعدما تصرّف «حزب الله» في السنوات الماضية من موقع الذي أجهَز على الاتفاق، بالنقاط وليس بالضربة القاضية، من التفرّد بقرار الحرب والسلم في العام 2006، إلى فرض واقع سياسي بقوة السلاح بعد أحداث 7 أيار، ومن ثم واقعة «القمصان السود» والانقلاب على حكومة الوحدة الوطنية، وما تلاها من حكومة «اللون الواحد»، وإعلان «حزب الله» مشاركته في القتال ضد الشعب السوري غصباً عن «إعلان بعبدا» الذي لم يُقم له أيّ اعتبار.
لم تجرِ رياح الأحداث كما اشتهى «حزب الله». أشرف على الفراغ عبر تعطيل الانتخابات الرئاسية لسنتين ونصف السنة، من ضمن سياسته بـ»تجميد» المشهد اللبناني على ساعة «انتصاره الموعود» في سوريا، لكنّه حتى اللحظة لم يُحقّق انتصاره الموعود، ولن يُحقّقه، بعد كلّ التطوّرات التي بات «الايراني» فيها لاعباً ثانوياً أمام الكبار، من روسيا إلى الولايات المتحدّة الأميركية.
أما في الداخل، فباغت الرئيس سعد الحريري «حزب الله» بمبادرتين كانتا كفيلتين بإرباكه، وكسَر سياسة «التجميد» التي كان يتّبعها، الأولى مبادرة ترشيح النائب سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية، والثانية مبادرة انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية. في المبادرتين كان «اتفاق الطائف» هو نقطة الإرتكاز.
الأولى استطاع «حزب الله» إسقاطها رغم أنها تخصّ حليفاً تاريخياً، والثانية لم يستطع مقاومتها لأنّ عون كان مرشّحه، وتوالت الأحداث، وأطلّ عون، من قصر بعبدا، على خلاف ما كان يطلّ به من الرابية، رئيساً لجميع اللبنانيين، وليس حليفاً لـ»حزب الله»، بـ»خطاب قسم» أساسه «اتفاق الطائف» ودولة المؤسسات والسيادة والاستقلال والحرص على علاقات لبنان العربية.
اليوم، لا يبدو «حزب الله» مرتاحاً لما وصَل إليه النقاش في قانون الانتخاب. يبدو مأزوماً في تحالفاته، وتحديداً مع «التيار الوطني الحر». لم يستطع إبقاء الأزمة في الغرف المغلقة. خرجت إلى العلن، كدليل على عمقها، بعدما رفض «حزب الله» كلّ الصيغ التي قدمها حليفه، مباشرة أو بشكل غير مباشر عبر رئيس مجلس النواب نبيه برّي، حتى وصل الأمر بينهما، حَدّ السجال على المنابر، والتهديد بتعطيل مجلس النواب، ودقّ النفير للنزول إلى الشارع، من قبل «التيار الوطني الحر» وحليفه «القوات اللبنانية».
المُضحك المبكي هنا، أنّ بعض الاعلام الدائر في فلك «حزب الله» حاول تحميل الحريري مسؤولية «الفتنة السياسية» بين «الثنائية الشيعية» و»الثنائية المسيحية»، فيما بدا على أنه «استخفاف كبير» بوجدان الشارع المسيحي ومطالبه، بعدما تبيّن له، وتحديداً لجمهور «التيار الوطني الحر»، أنّه كان مخطئاً بالعنوان في اتهاماته لتيار «المستقبل» طوال الفترة الماضية، وأنّ كل «الكلام المعسول»، من قبل حلفاء الـ 12 سنة الماضية، لم يعد يُجدي نفعاً، ما لم يُترجم إلى أفعال تعينهم على نيل مطالبهم، ولا تُدينهم في مسعاهم المشروع لذلك، ما دام يتم تحت سقف المؤسسات و»اتفاق الطائف»، بعدما أعانوا هم حليفهم «حزب الله» في كل مغامراته التي تمّت على حساب المؤسسات ودستور «الطائف».
بدا واضحاً أنّ اتهام الحريري بـ»الفتنة السياسية» زاد من صدقيته أمام جميع اللبنانيين، ولا سيما الشارع المسيحي، خصوصاً بعد موقفه الرافض للتمديد، فعند الإمتحان يُكرم المرء أو يهان، والرئيس الحريري كرَّم نفسه، وكرَّم ثوابت الرئيس الشهيد رفيق الحريري الحريصة على «اتفاق الطائف» و«المناصفة»، وكرَّم شركاءه في الوطن بالوقوف عند هواجسهم، والتضحية حيث يلزم من أجلهم، والعمل معهم من أجل معالجتها، تأكيداً على أنّ لبنان سيبقى الضمانة للوجود المسيحي في هذا المشرق.
من هنا، يمكن فهم خلفيات موافقة الحريري على قانون «التأهيل»، لمرة واحدة فقط، كمخرج لمأزق انتاج قانون جديد، على أنّها خطوة إلى الوراء من أجل التقدم خطوة إلى الأمام، انطلاقاً من أنّ قانون «التأهيل» حلّ موقت، ينتهي بانتهاء المرحلة المقبلة من الانتخابات، ولا يصح أن يتحوّل واقعاً دائماً في الحياة السياسية اللبنانية، وبالتالي فهي خطوة في مسار متكامل نحو قانون يعود إلى النسبية الكاملة، ونحو «مجلس شيوخ» يضع «اتفاق الطائف» على طريق التطبيق السليم.
هذا ما فعله ويفعله الحريري للخروج من الأزمة، فأين «حزب الله» منه؟