حتّى الآن لا يزال الأفق مقفلاً أمام أيّ حلول. كلّ طرف يحاول الثبات على موقفه مراهناً على الوقت، وعلى تعب الفريق الآخر. في آخر مواقف السلطة أنّها تقرّ بحجم الأزمات التي دفعت الناس الى الشارع، ولكنّها في الوقت نفسه تقول انّها لن تفاوض تحت ضغط الشارع. وبالتالي فإنّ برنامج الحلّ برأي مختلف أفرقاء السلطة يبدأ أوّلاً بخروج الناس من الطرق الرئيسية، ولو أدّى ذلك الى فتحها بالقوة، وإكمال تحرّكاتهم وتظاهراتهم في الساحات، وثانياً الذهاب الى مفاوضات مع رئيس الجمهورية من خلال وفد يمثّل المتظاهرين حول الورقة الاقتصادية، وثالثاً الذهاب إلى بحث موضوع الحكومة كنتيجة لهذه المفاوضات.
لكنّ هذا البرنامج لا يبدو خارطة طريق مقنعة للمتظاهرين، أوّلاً لأنه اذا لم يُدفع ثمن سياسي على الساخن، فهل يصدّق أحد أنّ ذلك سيحصل على البارد؟ وهل هناك من يصدّق أنّ أهل السلطة المتشبثين بكراسيهم سيتنازلون عن «عروشهم» من تلقاء أنفسهم؟
وثانياً، فإنّ الدعوة الى تشكيل وفد موحّد للتفاوض هو بمنزلة فخّ أكثر مما هو عرض جدّي لرهان السلطة على توسيع دائرة الخلافات الموجودة أصلاً بين فئات الحراك المدني.
وثالثاً، لأنّ ورقة الإصلاحات التي طُرحت ليست جدية وقابلة للتنفيذ أصلاً بصرف النظر عن عناوينها البرّاقة، بدليل أنّ الوزير جبران باسيل اشترط تعديل بند خطة الكهرباء لمنح الورقة موافقته عليها وهو ما حصل. وكان مريباً جداً أن يشترط باسيل القبول بتعيين أعضاء الهيئة الناظمة، ولكن بعد تعديل مهماتها من خلال قانون جديد يصدر عن مجلس النواب أي أن تصبح صلاحيات هذه الهيئة شكلية وغير نافعة.
كذلك أن يشترط إدراج المصارف اللبنانية كجهة مموّلة لخطة الكهرباء بعدما لمس خلال الأشهر الماضية إحجام المصارف الخارجية عن تمويل هذه الخطة بسبب الغموض الذي يكتنف بعض جوانبها. وصحيح أنّ هنالك أكثر من 5 قيادات تتسابق في تحريك وتجييش المتظاهرين، لكّن هذه القيادات مختلفة في ما بينها على العناوين المطروحة والأهداف وكيفية المعالجة، وهي تتراوح بين من يقبل بتعديل حكومي كثمن سياسي يؤدي الى خروج شخصيات نافذة من الحكومة ومن يذهب الى البعيد طلباً لانتخابات نيابية مبكرة ووفق قانون جديد.
في الواقع لا تبدو قيادات المتظاهرين مخطئة في تقديرها بأنّ السلطة وتحديداً فريق الوزير جبران باسيل يحاول الالتفاف على ما حصل للعودة الى ما قبل اندلاع الثورة، وكأنّ شيئاً لم يكن. فحتى في موضوع التعديل الحكومي فإنّ باسيل الذي نجح في تبديل رأي رئيس الجمهورية بعد أن أعطى موافقته على هذا الحلّ، باشر طرح شروط أخرى موازية كمثل أنّ خروجه من الحكومة يجب ان يترافق مع خروج الرئيس سعد الحريري، إضافة الى كلّ الآخرين. ولم يعد سرّاً ان رئيس الجمهورية وفي مرحلة ما قبل اندلاع الثورة كان بدأ يضيق ذرعاً بالحريري، وتحدّث مع شخصيّة نيابية سنية لكي تكون البديل في رئاسة الحكومة. لكنّ «حزب الله» رفض الفكرة معتبراً أنها قفزة في المجهول، وهو ما زال على تمسّكه ببقاء الحريري حتى اليوم. الرئيس عون كان قد أبلغ عدداً من الأفرقاء بمن فيهم «حزب الله» قبوله بالتعديل الحكومي، وبالتالي خروج باسيل من الحكومة. وقيل انّه كان صُدم من حجم رفض الشارع المسيحي لباسيل بعد أن صوّر له البعض الواقع على عكس ذلك.
وقيل إنّ إحدى كريمات الرئيس عون شنّت هجوماً صاخباً في القصر الجمهوري على باسيل خلال اليومين الأوّلين للانتفاضة. قالت إنّه رمى رصيد ميشال عون على الأرض نتيجة السياسة السيئة التي اعتمدها. وتحدّثت عن إحاطة نفسه بطبقة من المستفيدين والمتموّلين على حساب المناضلين والأكفّاء، ما أدّى الى انهيار سريع عند أول صدمة وهروب «رجال المصالح». لكنّ باسيل استطاع اقناع رئيس الجمهورية بأنّ خروجه بهذا الشكل من الحكومة سيعني الاعتراف بالتّهم الموجهة اليه، وسيلبي ذلك حتماً المطالبة بإسقاط رئيس الجمهورية.
لكن نقطة قوّة باسيل استندت الى موقف «حزب الله» المرتاب من وجود مشروع سياسي كبير لدى القائمين على هذه التظاهرات، وهنا بيت القصيد.
في الواقع فإنّ معارضة «حزب الله» لا تنطلق من الزاوية المحلية والإصلاحية لانفجار الناس في الشارع، بل على العكس فخلال جلسة الـ7 ساعات التي جمعت امين عام «حزب الله» السيد حسن نصرالله بالوزير باسيل، كان السيد نصرالله حادّاً في رفضه سياسة الضرائب التي كان يتمسك بها باسيل بالتفاهم مع الحريري. لكنّ قلق «حزب الله» هو حول هوية الأب السياسي الحقيقي لهذا الحراك وعن الخطوة الثانية التي يريدها.
في ذهن «حزب الله» صورة ثورات «الربيع العربي» التي بدأت بشيء وانتهت بمشروع سياسي آخر. ففي سوريا التي تابعت تطوراتها قيادة «حزب الله» عن قرب، أخذت المطالب تتدحرج وصولاً الى المطلب السياسي الأهم وهو رحيل بشار الأسد وتغيير النظام بكامله.
واليوم يقف «حزب الله» محاولاً اكتشاف الهوية السياسية للحراك والهدف الحقيقي له: ماذا لو وافقنا على تعديل حكومي، فهل تتوقف الأمور هنا أم أنّ تحقيقها سيعطي هؤلاء دفعاً قوياً للانتقال الى المرحلة الثانية؟ وما هو الهدف الفعلي من طرح حكومة التكنوقراط؟ وهل هو إخراج «حزب الله» من الحكومة؟ وهل انّ إعلان الذهاب الى انتخابات نيابية مبكرة وفق قانون انتخابي جديد هو مطلب جدّي بهدف قلب التوازنات القائمة؟
الكثير من هذه الأسئلة يطرحها «حزب الله»، وهو وجّه أجوبة لها مع رسائل استباقية من خلال كلمة السيد نصرالله، والتي أرفقها بعرض ميداني معبّر في ساحة رياض الصلح وفي المناطق الشيعية. وبقي سؤال «حزب الله» للحراك الحاصل: من أنت؟ وماذا تريد؟
لكن قيادة «حزب الله» وصفت على ما يبدو خططها لكلّ الاحتمالات المستقبلية، ولكن مع تدعيم موقف اهل السلطة وتشجيعها على الثبات في موقفها الحالي وعدم الانطلاق الى المحطة الثانية قبل انكشاف المسار كله.
لدى «حزب الله» معلومات موثّقة حول بصمات خليجية وعن توجيه شعارات المتظاهرين ضدّ السيد نصرالله. وهو رصد باهتمام تصريحات لشخصيات تنتمي الى فريق 14 آذار بأنّ الهدف هو تشكيل حكومة من دون «حزب الله».
في المقابل لا تبدو الأوساط الديبلوماسية الغربية موافقة على وجود خطّة كاملة يجري تنفيذها على غرار ما حصل في سوريا او حتى ما حصل في لبنان عام 2005. هي لا تستبعد ان تكون بعض الدول الخليجية مؤيدة وربما اكثر لما يحصل. لكنها تبدو متمسكة بأنّ الاولوية في لبنان هي للاستقرار ولعدم الانحدار الى الفوضى، خصوصاً انّها تدرك أنّ الطرف الاقوى في لبنان على الإطلاق هو «حزب الله»، وأنه قادر على ان يحوّل الفوضى في حال حصولها الى مكتسبات له. وان احتمال الذهاب الى مجلس الامن انّما في دخول الفوضى الى الساحة اللبنانية، وبالتالي منع «حزب الله» من «فلش» قوته على كامل الساحة اللبنانية. لكنها تقول انّه لا بدّ من إعطاء ثمن سياسي للمتظاهرين وليس تجاوز الامر، وكأنّ شيئاً لم يحصل، كما يتوهّم البعض. وأنّ الثمن المعقول قد يكون من خلال إجراء تعديل وزاري جدّي لم يبدأ حتى الآن البحث في احتمالاته وتفاصيله. وأنّ المسألة قد تكون في حاجة لتوضيح الصورة أمام «حزب الله» وإعطائه الضمانات والأجوبة التي يطلبها، وهو ما اعتاد أن يتولاه رئيس المجلس النيابي نبيه بري من خلال شبكة علاقاته المفتوحة مع الجميع داخلياً وخارجياً.