Site icon IMLebanon

بين الاستقلال ومقاومة الوصاية الجديدة

 

ماذا بقي من الإستقلال باستثناء اكتشاف اللبنانيين مجددا، ومعهم أهل المنطقة، أن الصيغة اللبنانية اقوى بكثير مما كان يعتقد، وذلك مع الإعتراف بأنّ حجم المخاطر التي تواجه الوطن الصغير في ازدياد مطّرد؟. 

تزداد المخاطر بشكل يومي على لبنان في ضوء ما يشهده الشرق الأوسط من تحوّلات تاريخية. لا تذكّر هذه التحولات سوى بمرحلة ما بعد انهيار الدولة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى واعادة صياغة خريطة الإقليم كلّه.

لبنان ضحية من ضحايا الزلزال العراقي في العام ، وهو زلزال ادى إلى اختلال كبير في التوازن الإقليمي لمصلحة إيران. كانت الترجمة الواقعية لهذا الزلزال على الأرض اللبنانية انتقال الوطن الصغير من الوصاية السورية ـ الإيرانية إلى الوصاية الإيرانية، وذلك بعد انسحاب القوات السورية من لبنان في اعقاب اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه في الرابع عشر من شباط . 

الآن، بعد مرور كلّ هذا الوقت، بدأنا نفهم أنّ الجريمة، التي ذهب ضحيتها من اعاد بناء لبنان ما بعد انتهاء الحرب الداخلية وحروب الآخرين على ارضه، كانت عملية مشتركة. نفّذ الجريمة ورعاها النظام الأمني السوري – الإيراني – اللبناني الذي كان يتحكّم بمفاصل البلد وبتفاصيل التفاصيل في مرحلة ما قبل استشهاد الرئيس الحريري ورفاقه. 

الآن بدأنا نفهم أيضا لماذا قال السيد حسن نصرالله الأمين العام لـ«حزب الله» في الثامن من آذار ، أي بعد ثلاثة اسابيع من حصول الجريمة، عبارة «شكرا سوريا». هل اراد شكر النظام السوري على تغطيته الجريمة ومشاركته فيها، كما يظهر من الشهادات امام المحكمة الدولية، خصوصا شهادة النائب مروان حماده؟. 

هل اراد شكر النظام السوري على عدم فهمه المعادلة اللبنانية واجبار نفسه بطريقة أو بأخرى على الإنسحاب من البلد عسكريا بعدما اعتبر أنّ مجرّد اغتيال رفيق الحريري سيجعله يبقى في لبنان إلى الأبد؟. هل كان نصرالله يريد بالفعل شكر النظام السوري من أجل الحؤول دون انسحابه عسكريا من لبنان، بل كان يعرف تماما، على نحو مسبق أنّ الثمن المباشر للجريمة هو الإنسحاب العسكري السوري وأن من يملأ هذا الفراغ هو «حزب الله» ولا احد آخر غير «حزب الله»؟. والمعني بـ«حزب الله» ما يمكن وصفه بلواء في «الحرس الثوري» الإيراني عناصره لبنانية. 

في كلّ الأحوال، بدأ الإنتقال إلى الوصاية الإيرانية، خطوة خطوة، مع تشكيل نجيب ميقاتي حكومته الأولى، مباشرة بعد اغتيال رفيق الحريري وقبل انسحاب القوات السورية من الأراضي اللبنانية في نيسان ، أي بعد شهرين من الجريمة. 

للمرّة الأولى، دخل «حزب الله»، وقتذاك، الحكومة اللبنانية عبر وزير محسوب عليه وذلك تمهيدا لتكريس ما صار يسمّى الثلث المعطّل. قبل ذلك، لم يكن الحزب يولي أهمّية للمشاركة في الحكومة، ما دامت الوصاية السورية تحافظ له على كلّ مصالحه. 

لكّن ايران، في ضوء ما حصل في العراق، باتت تريد أكثر. ارادت بكل بساطة تأكيد أنّها فتحت الطريق امام وصايتها المباشرة التي نشهد حاليا في كلّ يوم فصلا من فصولها. 

بعد واحد وسبعين عاما على الإستقلال، ما زال لبنان يقاوم على الرغم من أنّه من دون رئيس للجمهورية منذ الخامس والعشرين من أيّار الماضي. هناك مقاومة لبنانية حقيقية للمشروع التوسعي الإيراني الذي ليس ما يشير إلى أنّ مصيره سيكون أفضل من مصير المشروع السوري في ما يخصّ لبنان.

هذا لا يعني في أيّ شكل أن لبنان في وضع جيّد. على العكس من ذلك، إنّه في وضع لا يحسد عليه، خصوصا في ظلّ وجود ميليشيا مذهبية تبحث الآن عن شرعية لسلاحها الموجّه إلى صدور اللبنانيين، عبر الإدعاء أنّها تقاوم «داعش». مَن يريد بالفعل مقاومة «داعش» لا يتورّط في الحرب الداخلية السورية من منطلق مذهبي بحت. مَن يريد بالفعل مقاومة «داعش» لا يزيل الحدود اللبنانية ويعتبر أنها لم تعد موجودة.

نعم، اكتشف اهل المنطقة ومعهم العالم أن تركيبة لبنان بصيغته الطائفية ليست بالهشاشة التي يعتقدها كثيرون، بمن في ذلك بشّار الأسد نفسه. لبنان يمتلك مقومات المقاومة. لذلك، قاوم السلاح الفلسطيني وقاوم الإحتلال الإسرائيلي وقاوم الوصاية السورية وهو الآن يقاوم المشروع التوسّعي الإيراني الذي يستهدف تدمير مؤسسات الدولة اللبنانية الواحدة تلو الأخرى… وصولا إلى تكريس الفراغ الرئاسي.

تبيّن أنّ ليس بين العرب المشرقيين، خصوصا، من يستطيع اعطاء دروس للبنان في شيء. سوريا التي عرفناها انتهت، كذلك العراق الذي كان أحد اعمدة النظام الإقليمي. مهّد سقوط العراق لزيادة زخم الهجمة الإيرانية التي استهدفت، بين ما استهدفت، لبنان ومؤسسات الدولة اللبنانية كلّها.

ستزداد الضغوط على لبنان المستقلّ. ستعمل ايران على الإمساك بكلّ مفاصل الدولة اللبنانية مستخدمة سلاح «حزب الله» عندما تدعو الحاجة إلى ذلك، والدهاء السياسي حيث لهذا السلاح فعالية ما. تتقدّم إيران احيانا وتتراجع في احيان أخرى. تراجعت عندما وجدت أن المغامرة السورية لـ«حزب الله» ليست نزهة وأن الأوان لم يعد أوان غزوة جديدة لبيروت والجبل كما حصل في ايار ، أو افتعال حرب جديدة مع اسرائيل كما حصل في صيف العام .

قبلت ايران على مضض تشكيل حكومة لبنانية برئاسة تمام سلام وصفها الرئيس سعد الحريري، منذ البداية، بدقّة ليس بعدها دقّة، بأنّها حكومة «ربط نزاع».

بعد واحد وسبعين عاما من الإستقلال، يقف لبنان عند مفترق طرق. ما قد يزيد الوضع صعوبة تدفّق اللاجئين السوريين عليه. سيترتّب على لبنان في الأشهر المقبلة مواجهة المخاطر الناجمة عن سلاح «حزب الله» وتورطه في سوريا واستجلاب «داعش» من جهة العبء الناجم عن وجود مئات الوف السوريين داخل اراضيه من جهة أخرى. 

فوق ذلك كلّه، سيكون عليه التعاطي مع المشروع التوسعي الإيراني الذي يستهدف تغيير طبيعة النظام وطبيعة المجتمع بعدما نجح في تغيير طبيعة قسم كبير من المجتمع الشيعي وخطفه.

هل سيستسلم لبنان امام الوصاية الإيرانية؟. الجواب المباشر أنّ اغتيال رفيق الحريري لم يحقّق النتائج المطلوبة، لا سوريا ولا ايرانيا. ورثت ايران سوريا في لبنان. هذا صحيح. ولكن، اذا كان من درس يمكن الإستفادة منه، فهذا الدرس لديه ملخص واحد هو أن ليس بالإمكان الإستخفاف بلبنان، لا بمسيحييه ولا بمسلميه. 

مَن كان يتصوّر أن المسلحين الفلسطينيين سيغادرون يوما لبنان؟. من كان يتصوّر مشهد القوات السورية تجتاز نقطة الحدود عند المصنع وغيرها من النقاط؟. نعم، النظام الإيراني اكثر دهاء من النظام السوري. هذا امر مفروغ منه، خصوصا أنّه يستخدم في سياق تنفيذ مشروعه عناصر لبنانية، اضافة إلى سلاح اثارة الغرائز المذهبية.

ولكن هل يكفي اغتيال رفيق الحريري، في سياق الإحتلال الأميركي ـ الإيراني للعراق، كي تصبح بيروت مدينة إيرانية على المتوسّط وكي تجد إيران بديلا من اتفاق الطائف؟.