قد يكون لقاء الرابية، الذي أُعلن خلاله إعلان النيّات بين عون وجعجع قد نجح، إلى حدّ ما، في كسر الجليد بين القطبين المتنافسين على الزعامة المسيحية، وبالتالي على الكرسي الرئاسي، والمسؤولين الأولين عن تعطيل الانتخابات الرئاسية، وفي تبريد الشارع المسيحي وتحييده عن طبول الفتنة التي تقرع بقوة على أبواب عرسال.
إلا أن تحييد الشارع المسيحي وحده لا يكفي، لأن التقسيم في لبنان، وحتى الساعة، ليس بالخيار المطروح، وبالتالي يقف اللبنانيون جميعاً، مسلمين ومسيحيين، بكل أطيافهم وانتماءاتهم وتحالفاتهم على مركب واحد وسط بحر هائج، فإما ينجون معاً أو يهلكون. وإذا كان لمعركة عرسال مؤيدون، فلا بدّ أن يرسموا حدوداً واضحة لخططهم، حيث تقف عند حدود الجرود، بتنسيق كامل مع القوى الأمنية وأهل عرسال، الذين هم بمثابة أهل لهم، كما أعلن السيد نصر الله في خطابه التعبوي الأخير، تحت غطاء سياسي من الحكومة.
أما الجلوس على طاولة حوار افتراضية مع المستقبل في عين التينة، وإعلان الحرب على عرسال من الضاحية، وتشريع أوكار المطلوبين والمجرمين على مصراعيها في بعلبك والهرمل، فهو ضرب لأدنى حدود التوافق، والذي هو واقع على المستوى الشعبي أكثر منه الرسمي، لأنه، وباستفتاء بسيط ، نجد أن 99٪ من أهل السنّة والشيعة ضد المجموعات التكفيرية، و99٪ من اللبنانيين أجمعين ضد الفتن المذهبية أو الطائفية بشتى أشكالها.
وإذا كان على اللبنانيين استخلاص العِـبَر من محيطهم لفهموا أن اقتلاع الفتن التي تلوح خلف الحركات الأصولية والجماعات الإرهابية الوافدة على المنطقة، لا يمكن أن يتم إلا بتوحيد الصف الداخلي وتحويله لسدّ منيع بوجه العواصف الآتية، وليس عبر استنهاض مجموعات ضد أخرى ضمن الوطن الواحد، حيث تتحوّل الدولة إلى مجموعة عشائر والقانون الى حكم الأقوى والشراكة في الوطن إلى عداء وكيدية وفتنة طاحنة، تمحو كل من يقف بوجهها، كما يحصل اليوم في العراق وسوريا.
وبالتالي، لا إعلانات النيّات، ولا الخطابات الرنانة، ولا الابتزاز السياسي، ولا محاولات إلغاء الآخر تبني الوطن الذي نطمح له، ولا تُخرج لبنان من الأزمة المطبقة عليه، والتي عطّلت حتى اليوم غالبية المرافق السياسية وضربت الديمقراطية في صميمها، بل ترجمتها على الأرض بخطوات عملية بدءاً من إعادة الحياة للمجلس النيابي، وانتخاب رئيس للجمهورية كمرحلة أولى في رحلة تطوير الدستور والقانون الانتخابي وإعادة ترتيب البيت الداخلي، من دون إغفال ضرورة الحفاظ على المراكز الأمنية، ومنع الشغور حتى لا ينكشف الوطن أمنياً بعدما انكشف سياسياً.
إنّ دقة المرحلة المقبلة وارتفاع حال التأهب عند كل الأطراف بالشكل الحاصل يحتمان على الجميع تحمّل مسؤولياتهم نحو التهدئة والحكمة في محاولة أخيرة لتمرير القطوع الأمني ضمن الحد الأدنى من الهدوء السياسي وليس العكس، عبر التحدّي والتهوّر وسوق البلاد والعباد في مغامرات غير محسوبة لا تخدم مصلحة أحد من الأفرقاء الوطنيين بقدر ما تخدم أعداءهم مجتمعين!