الخامس والعشرين من أيار ٢٠٠٨ شهد لبنان احتفالاً مزدوجاً، انتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية بعد سحابة شغور رئاسي، وفي الوقت ذاته، الذكرى الثامنة لتحرير الجنوب،
انما هذا الفرح المزدوج لم يستمر طويلاً، لأسباب عديدة، أبرزها الانقسام الذي بدأ يذر بقرنه بين اللبنانيين، حول مفهوم المقاومة التي حصدت مجد التحرير، نتيجة التحولات التي طرأت على الأجواء الاقليمية، مع هبوب رياح الربيع العربي الساخنة وانجرار بعض القوى اللبنانية الى اللعبة الاقليمية، بانقياد تخطى كل خصوصيات التركيبة اللبنانية، بتعدديتها وتنوعاتها وهشاشتها في غالب الأحيان…
ولا شك أن أحداث السابع من أيار في بيروت والجبل كرست الانقسام العمودي بين جانبي الخيمة اللبنانية، ٨ آذار من جهة و١٤ آذار من جهة أخرى، ومذاك بدأ المفهوم الوطني للمقاومة يتزعزع عند نصف اللبنانيين على الاقل، ومع وصول ثورة الربيع الى سوريا عام ٢٠١١ بات عيد التحرير شأناً فئوياً يخص فريق الثامن من آذار وحده…
لقد أفضى انجرار حزب الله الى الحرب في سوريا، بضغط ايراني واضح ومسلّم به، بمعزل عن رأي الدولة اللبنانية، وخلافاً لكل التفاهمات الداخلية وعلى رأسها اعلان بعبدا، الى انكشاف وحدة الأهداف والمصالح والأولويات بين اللبنانيين، ليتبين عمق الاختلاف في الرؤى والمفاهيم الوطنية، وبأن ثمة من يصرّ على اعتبار مواجهته شعب طامح للتحرر من نظامه الاستبدادي مقاومة مشروعة، كما تلك التي مكنته من دحر محتل الأرض في الجنوب. علماً أن لا مقاومة في قواميس الشعوب، الا تلك الموجهة ضد محتل، اما السعي لتغيير نظام جائر، فيعتبر ثورة، والدفاع عن النظام المطلوب تغييره، يسمى ثورة مضادة…
مبدأ النأي بالنفس الذي اعتمدته الدولة، غلبته الوظائف الاقليمية لبعض القوى، مما ساهم في توريط فريق من اللبنانيين في متاهات الدفاع عن النظام السوري، فيما تحول الفريق الآخر الى داعم بالسياسة والاعلام والرعاية الاجتماعية للمعارضة السورية المسلحة، وبعيداً عن التنظيمات المتورطة بأعمال ارهابية ممجوجة دينياً وانسانياً، وهو ما أوصلنا الى ما نحن فيه، فريق يعتبر نفسه مقاوماً وممانعاً، وآخر لا يعترف به لا كمقاوم ولا كممانع، في ضوء انغماسه في الدفاع عن نظام قاهر لشعبه، ومن خلال محور يمانع في سياسات وتحالفات بأمل الانضمام اليها أو نيل بركتها… وآخر يقابله باعتماد الشعارات الوطنية والسيادية، وتبنّي اتفاق الطائف الناظم للحياة السياسية والراعي للسلم الأهلي في لبنان، مع اعطاء الأولوية لملء الشغور الرئاسي بمن يعتبره مؤهلاً لقيادة السفينة اللبنانية في اليمّ الاقليمي الهائج، شرط أن يكون ممن لا يخجل حاضره من ماضيه، كما قال البطريرك مار بشاره الراعي ذات يوم…
المشكلة في لبنان منذ نشوء ٨ و١٤ آذار، على دوي اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري عام ٢٠٠٥ اننا بتنا أمام سلبيتين، لا تولدان ايجابية، والوصف لمنظّر الميثاق الوطني المفكر ميشال شيحا، فلا فريق الثامن من آذار مهيّأ للانضمام الى الخط السياسي المنغمس، من خلال ولي أمره حزب الله، في المشاريع الاقليمية المرتبطة بالاستراتيجيات الايرانية، ولا فريق ١٤ آذار في وارد السباحة بهذا المستنقع، وهو المعتاد على مياه المحيط العربي النقيّة…
هذا التباعد أوصل اللبنانيين الى حاله التشنّج القائمة، الى الاتهامات بل والتهديدات غير المسبوقة، ضد فريق المستقبل وشيعة السفارة الأميركية، والتي تعكس في النهاية الحرج الذي بلغه وضع المتوطين في الحرب السورية، والذي يذكر بقول قائل ان من يلعب الشطرنج وحده، لا بد أن يرتبك في تحريك الحجارة…
التحرير والفراغ مناسبتان التقتا بتشابه الأيام وليس بالمعنى الحميم للقاء، واذا ما أخذنا الأمور بمقاساتها السياسية، نكتشف نوعاً من التناقض في المفاهيم، فالغريب ان من حرّر الأرض، ليس بعيداً عن استعباد رئاسة الجمهورية…
وفي رأي الرئيس تمام سلام ان من صنع انجاز التحرير، قادر على التعالي فوق الخلافات….
هذا طبعاً، إلاّ اذا كان سبق السيف العزل… علماً ان المشكلة في الأساس ليست عندنا، انما نحن المصبّ الدائم لنتائجها الآسنة…