Site icon IMLebanon

بين الموصل وحلب

 

مدينتان تلخصان تاريخ بلاد الشام والعراق وحاضرهما، وترسمان مستقبلهما: الموصل وحلب هما الحاضرتان الأكثر عراقة ومدينية في بلدين غارقين في الدماء وفي أعماق التاريخ، تاريخ ما قبل الفتح وما بعده. كانتا مرة «عاصمتين» لدولة واحدة، أيام الدولة الحمدانية، حين برز أبو الطيب المتنبي، وأبو الفرج الأصفهاني، والفارابي ومدينته الفاضلة، وأبو فراس الحمداني، وغيرهم كثيرون. ساعد في هذه النهضة الخليط السكاني الذي أغنى ثقافة ما زال يفخر بها العرب حتى اليوم، وإن لم يبنوا على أسسها شيئاً، فالقطع مع التاريخ ومحو كل مضيء فيه شيمتهم، عدا ما يدعو إلى الفرقة والتنابذ.

المدينتان أصبحتا ولايتين في عهد السلطنة العثمانية. وافترقتا قبل مئة عام في تخطيط سايكس- بيكو. سكانهما خليط من شعوب وقبائل وأعراق. فرقتهما عروبة البعث صاحب «شعار الوحدة والحرية والاشتراكية». واليوم تفرقهما أقذر حروب العصر الحديث. تعرف الدول الإقليمية والعالمية أهميتهما. كل من هذه الدول تحاول حسم الحرب لمصلحتها، والسلطتان المركزيتان عاجزتان حتى عن بسط سيطرتهما على محيط «المنطقة الخضراء» أو الغوطة، فكيف بالأقاليم البعيدة المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالخارج، وأهلهما ممزقو الهوية بين الطوائف والمذاهب، بين حكومتين تستعينان بهذا الخارج. وثوارهما يستقدمون قتلة من سهوب آسيا ومن المحيط، وسياسيين قادمين باسم إمبراطوريات ظننا أنها اندثرت، وإذ بهم يرسلون جحافلهم وترساناتهم للقضاء على الديكتاتورية وتحرير القتلى ونشر الديموقراطية، ولا ننسى نبش القبور الجماعية وعقد التحالفات ضد الإرهاب في السماء وعلى الأرض. لكنها تحالفات متناقضة. في الموصل يصبح الإرهاب عدو الحلفاء. وفي حلب يصبح صديقهم.

محنة المدينتين اليوم تتلخص في أن كلتيهما مفتاح الحل في العراق وسورية، ولا أحد يريد حلاً. السلطان في الشمال يمني النفس باستعادتهما إلى أحضانه، يضم إلى صفوف عسكره «إنكشارية» لا يعرفون سوى الطاعة العمياء. لا هم لهم سوى خدمة زعيمهم. لا علاقة لهم لا بالتاريخ ولا بالجغرافيا، وكل ما يقال عن انتمائهم الإثني والأيديولوجي وتعرضهم للاضطهاد مجرد تبرير لوجودهم.

بدأ السلطان ينكفئ قليلاً، بعد انتقال الإرهاب إلى إسطنبول وسائر أنحاء بلاده، عقد تحالفات جديدة مع موسكو وطهران، صاحبتي اليد العليا في الحرب وفي ترتيب محادثات السلام بين النظام في دمشق وأعدائه، طامعاً بتكريس نفوذه في سورية. صعد حربه على الأكراد في حلب وتحالف معهم في الموصل تحسباً لما بعد «داعش».

أما التحالف الدولي بقيادة أميركا فيستكمل ما بدأه بوش الابن حين دمر العراق، وهدد بتدمير سورية، فنفذ البيت الأبيض تهديده بعد عشر سنوات. أوباما يتحالف مع الحكومة في بغداد ويحارب «داعش» مباشرة في الموصل. يعادي النظام في دمشق ويسلح أعداءه. يأخذ على موسكو إخراجها المسلحين من شرق حلب، ويدرب «معتدلين» لتحرير الرقة، يسعى إلى إعادة وصل المدينتين في دولتين مفككتين، أو تشكيل دويلة أخرى لمكوناتهما، على غرار إقليم كردستان، باعتبار هذه المكونات في المدينتين متجانسة إثنياً ومذهبياً، وهي الحجة الأكثر رواجاً وقبولاً في المنطقة، والأكثر إقناعاً للتقسيم بعدما أصبحت العروبة شعاراً من الماضي، أي أنه سيكرس ما بدأه «داعش» حين جرف الحدود بين سورية والعراق. وسيؤسس لفوضى جديدة في كل الشرق الأوسط، فوضى لن تسلم منها دولة من «دول سايكس- بيكو».

ما أصدق محمد الماغوط حين كتب: «كل طبخة سياسية في المنطقة أميركا تعدها، وروسيا توقد النار تحتها، وأوروبا تبردها، وإسرائيل تأكلها. والعرب يغسلون الصحون».