قال رئيس وزراء فرنسا الأسبق ريمون بار في حكومته الجديدة: «إنّها تلك التي تعرف كيف تدافع عن المصالح الوطنية أمام الهيئات العالمية الصانعة للقرار الوطني».
لقد عبّر الرئيس بار عن مخاوفه من تفتيت القومية الفرنسية في عالم بدأت تتآكله السياسة الكونية التي تقودها مجموعة من الهيئات باتت تعرف «بصانعي القرار». هذا إذاً يتطلّب من الحكومات الوطنية ضرورة إدراك متطلبات اللحظة التاريخية الراهنة، عبر التنبّه إلى التطورات العالمية وملاحقتها، وإلّا فقدت هويتها.
العالم اليوم أضحى متداخلاً مع بعضه في كلّ شيء، فلقد ساعد النظام الكوني الجديد في كسر الحدود وضرب القوميات وتفتيت الهويات، من أجل بناء منظومة من الهيئات أمسكت بالقرار العالمي، وعملت على فرض مصالحها على دول العالم من جهة. وتدمير ممنهج للدولة الوطنية من خلال إضعاف قرارها، لجعلها ضعيفة ومسلوبة الإرادة. فبرزت المخاطر التي تهدّد كيان الدولة وتعطلّت قوانينها، واخضعت قراراتها للهيئات العالمية هذه.
إنّ الدولة التي عملت على بناء المواطن لديها ضمن مجموعة من العقائد والمعتقدات الدينية والفكرية والسياسية والإقتصادية والإجتماعية، والتي ظهرت بعد تفتت الامبراطوريات والإقطاعيات في أوروبا أولاً ومن ثمّ في سائر المناطق في العالم، تنهار أمام ضربات النظام الكوني الذي يعمل على نقل الفرد إلى العالمية عبر فصله عن إنتماءاته الضيّقة ورميه في الساحات العالمية.
فرضت الكونية هيمنتها عبر هيئات من أصحاب القرارات العالمية، كالشركات المتعدّدة الجنسيات أو وسائل الاعلام والتواصل التي تنظر إلى الفرد كرقم في تعداد الأرباح لديها.
هذه الهيمنة تعمل على ضرب الدولة وجعلها ضعيفة ومستزلمة أمام الدول القوية. ولأنّ الدول الضعيفة أدركت عدم قدرتها على مجاراة التطوّرات الحاصلة في العالم، زرعت روح الإحباط في نفوس مواطنيها، ما دفع بها للّحاق بالدول الغربية والنظر إليها كمنقذة لتنشلها من بؤرة الفقر والجهل التي تعيشها.
لذلك، ووسط هذه التجاذبات العالمية ما على الدول إلّا العمل على حماية كياناتها من خلال مجموعة من الإجراءات أبرزها:
– حماية الحدود الجمركية عبر تفعيل الأنظمة الجمركية والضرائبية التي تؤثر في إنتاجها الوطني، فتعمد على حماية إنتاجها المحلي من المنافسة الخارجية.
– تفعيل الرقابة على البرامج الإعلامية الأجنبية وعدم السماح لها بسحق ثقافاتنا الوطنية.
– ضبط التوجّهات السياسية للأحزاب الوطنية في انصياعها للمصالح الخارجية على حساب مصالحنا الوطنية.
– إيقاظ روح الوعي الوطني عند الأفراد، ودعم الثقة في نفوس المواطنين بقدرة الدولة الوطنية على تأمين روح المواطنية عندهم من خلال تحقيق الحقوق لهم.
هناك الكثير من الإجراءات التي على الدولة الوطنية القيام بها، علّها تعمل في زمن الكونية أن تحافظ قدر المستطاع على كياناتها من الانسحاق التام في العالمية التي تفرض. لا يتوقف الأمر على الحمايات والرقابات، بل أيضاً يتعلّق الأمر برفع روح المعنوية لدى شعوب هذه الدول، وزرع الثقة في نفوسهم ليؤمنوا بأنّ دولتهم ليست عاجزة، وهي قادرة إن شاءت.
إذاً، ليس المطلوب محاربة هذه الهيئات عبر مجابهتها بشتى الطرق والوسائل لأنّها ستكون خاسرة لا محالة، لكن يجب أخذ الحذر من هذه المخاطر ومقاومتها بوسائل تحقق فرض حالة التوازن بينها. كذلك عبر اعتماد سياسة انتقائية لا رفضية بالمطلق، فما هو مفيد يمكننا الاستفادة منه، والعمل على تجييره لمصالحنا وتحقيقاً لأهدافنا.
من المؤكد أنّ إمكانات الدولة الوطنية، لا ترقى إلى مستوى صناعة العمل الدولي المنسجم ومتطلبات اللحظة الراهنة، لذلك فإنّ خلق مناخ سياسي-اقتصادي هو المدخل الضروري لامتلاك القدرة على إبداع أعمال ومؤسسات وآفاق تنسجم ومتطلبات الظرف الراهن، وتدفع بالدولة الوطنية إلى الأمام، ضمن ساحات النظام العالمي الجديد.
أخيرًا، فرضت الكونية ذاتها كسياسة عالمية لا يمكننا الهروب منها، بل يمكننا الدخول فيها، عبر الحفاظ على روح القومية في هذا النظام، الأمر الذي يجعل من هوياتنا وكياناتنا مصونة من بحر الضياع في الهوية الكونية.
لذا، فإنّ هذا الصراع لن ينتهي بل هو مستمرّ طالما هناك، أطماع تتخطى حدود الوطن وتفتّش في ساحات الدول عن مصالحها، وطالما هناك بالمقابل إرادة واعية ومؤمنة بالقومية كسياسة للمحافظة على الهوية والكينونة العامة للوطن الذي نعيش فيه.