هل تعكس تحذيرات بعض السياسيين في هذه الفترة في شأن الوضع المالي والاقتصادي في البلد مؤشرات حقيقية لمرحلة خطرة بلغتها الأحوال، ام انها تندرج في اطار التجاذبات السياسية المرتبطة بالضغط وتصفية الحسابات، وتحضير الأرضية للانتخابات؟
في منتصف العام 2016، وفي ظل استمرار الفراغ الرئاسي، وفي ظل «حكومة تصريف أعمال»، وانعدام امكانية استشفاف الاتجاهات التي ستسلكها التطورات، وبعدما سجل ميزان المدفوعات عجزا قياسيا مقلقا، قرّر حاكم مصرف لبنان في حينه التدخّل لشراء الوقت بانتظار أيام أفضل تسمح بالنهوض ومعالجة أساس المشكلة.
وتمّ انجاز ما بات يُعرف بالهندسات المالية التي قيل فيها الكثير سلباً وايجاباً، الا ان النقطة المؤكدة فيها، انها سمحت بادخال اموال الى البلد، أوقفت العجز المتراكم وحوّلته الى فائض. يومها، كان الامر واضحا بالنسبة الى حاكمية مصرف لبنان، التي أعلنت ان ما أنجزته كان بمثابة عملية انقاذية مؤقتة، وان مثل هذه العمليات لا يمكن القيام بها تكراراً، لأنها ترفع الكلفة، وتتحول من انقاذ الى مزيد من الاغراق.
بعد اغلاق ملف الفراغ الرئاسي نهاية العام 2016، كانت مفاعيل الهندسات المالية الايجابية في أوجها. وطوى العام يومه الأخير على فائض في ميزان المدفوعات قريب من المليار دولار.
وساد مناخ من التفاؤل انعكس بخجل على الحركة التجارية والاقتصادية، بانتظار تبلور أفضل للمسار الذي ستسلكه التطورات في البلد. وللتذكير القطرة التي فاضت بها الخابية ودفعت مصرف لبنان في ذلك الوقت الى خيار الهندسات المالية، هو بلوغ العجز في ميزان المدفوعات ارقاما مقلقة، وصلت الى اكثر من 860 مليون دولار في شهر واحد (ايار 2016). وللتذكير أيضا، من الانتقادات التي استخدمت ضد الهندسات المالية، انه كان يمكن الانتظار اكثر، وان انتخاب رئيس عقب اتمام سلسلة الهندسات المالية كان بمثابة تأكيد على انه كان في الامكان التريُّث.
ما يجري اليوم، وبالأحرى ما جرى خلال 2017، عاد لينقض نظرية أفضلية التريّث. اذ تبيّن ان الامور استمرت في التراجع، وان ما كان يعاني منه الوضع المالي العام بقي على حاله، بل زادت عليه الحكومة المكتملة الأوصاف، اعباء اضافية تمثلت في اقرار سلسلة الرتب والرواتب، التي رفعت الانفاق بما لا يقل عن مليار ونصف المليار دولار سنويا، باحتساب الرتب وزيادة غلاء المعيشة.
وتبيّن ان فرضية تمويل هذه الزيادة من رسوم وضرائب اضافية فرضتها الحكومة على الناس وعلى الاقتصاد واهية من أساسها، وقد أدّت الى مزيد من التضخّم في الاسعار، ومزيد من الانكماش في الاعمال، وخلقت مشكلة اضافية للقدرة الشرائية لشريحة واسعة من المواطنين لا تستفيد من مفاعيل السلسلة. ووضعت المؤسسات والموظفين امام معادلة مستحيلة، اذ لا المؤسسات قادرة في غالبيتها على تصحيح الاجور، ولا الموظف قادر على الحفاظ على مستوى مقبول من العيش الكريم.
وما زاد الطين بلّة، أزمة تشرين المعروفة بأزمة استقالة رئيس الحكومة سعد الحريري، ومن ثم العودة عنها في ظروف أقل ما يُقال فيها انها زادت منسوب القلق، وخفّضت مؤشر الثقة الى مستويات دنيا، وأدّت تلقائيا الى قرار رفع اسعار الفوائد.
في المقابل، بدأت السلطة تدرك ان مسألة رفع الضرائب والرسوم لخفض العجز او لتمويل السلسلة، لم يوصل الى النتيجة المرجوة، بدليل ان الحركة الاقتصادية سجلت المزيد من التراجع، وانخفض التصدير والاستيراد في آن بمعدل 17 الى 18 في المئة، في غضون 18 شهرا.
وللعلم أيضا، لم تكن أزمة الاستقالة في تشرين الثاني 2017، هي المسؤولة عن الوضع الكارثي الذي يلوح في الافق اليوم. اذ ان مسار التطورات في خلال هذا العام، على المستوى المالي والاقتصادي لم يكن أفضل من الوضع الذي صبغ الاحداث خلال العام 2016 بدليل ان العجز في ميزان المدفوعات، وهو المؤشر الأخطر بالنسبة الى بلد مثل لبنان يعتمد على حركة دخول الاموال لكي يستمر اقتصاده بلا انهيار، وصل الى 888 مليون دولار في شهر واحد، (تشرين الاول 2017)، أي ما يفوق العجز القياسي في ايار 2016، والذي حتّم اللجوء الى الهندسات المالية.
انطلاقا من هذه الوقائع التي يدركها المسؤولون عن الشأن المالي في البلد، تتسرّب التحذيرات الى المسؤولين السياسيين الذين يتبرّع بعضهم باطلاق اشارات تحذير خجولة، بصرف النظر اذا ما كانت تهدف الى التوعية ام الى الاستغلال السياسي في الزمن الانتخابي، لتسجيل نقاط في مرمى الخصوم. وفي الحالتين، لا تبدو التحذيرات مفيدة، لأن المشكلة ليست في التوعية، بل في اخلاقية اتخاذ القرار بتغيير المشهد الشاذ المستمر بلا توقّف.
والأخطر في هذه المرحلة ان البلد دخل في زمن الانتخابات، أي في فترة الجمود، وعدم القدرة على التصحيح، حتى لو توفرت الارادة السياسية في بعض الأمكنة. والذهاب الى باريس 4، قد يفقد معناه الايجابي، في كل الاتجاهات، ذلك ان المشاريع التي تحملها الحكومة اللبنانية تبحث عن تمويل اقتراضي في غالبيتها. هذه القروض الافتراضية لها مصدران خارجي وداخلي. وفي الكواليس، ان القروض من الخارج لن تكون سخية، ما دام البرنامج الاصلاحي لم يبدأ تنفيذه بعد، ويبدو ان الرهان هو على القروض الداخلية من خلال تنفيذ قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص.
ومن هنا، يُقال ان الحكومة تمتنع عن طرح المشاريع التي يمكن تمويلها بالشراكة بين القطاعين منذ اليوم، وتؤجّلها للطرح في باريس4، بحيث انها تعود من هناك بنتائج مقبولة تقدمها للرأي العام في حال قصّرت الدول في تقديم القروض، وهذا أمر صار مرجّحاً بقوة. لكن المشكلة هنا أيضا، ان مؤشر العجز في ميزان المدفوعات، قد يعني أيضا، ان القطاع الخاص اللبناني صار أضعف من السابق، وبالتالي، قدراته على تمويل المشاريع المشتركة تراجعت، وقد نصل الى وقت ليس بعيدا، نكتشف فيه ان هذا النوع من المشاريع، لم يعد قابلا للتنفيذ. اذ كلما تأخّر الوقت، كلما أصبحت الأزمة أشد تعقيداً، ولا بوادر حتى الساعة توحي بأن هذا المسار الانحداري قد يتوقف.