حين أعلنت موسكو في أيلول الماضي عن إرسال قوات عمادها الطائرات الحربية المتطوّرة ومصحوبة بمستلزمات حمايتها الى سوريا للمشاركة في العمليات العسكرية الى جانب الجيش السوري وحلفائه، خصوصاً بعد الخسائر التي تلقاها في جسر الشغور وتدمر وبعض المناطق المحيطة بدمشق، حصل اتفاق بين دمشق وطهران و»حزب الله» وموسكو على نقاط عدة أبرزها:
1 – وضع جميع القوى الميدانية تحت امرة غرفة عمليات مشتركة يديرها ضباط روس.
2 – استعادة زمام المبادرة الميدانية وتأمين دمشق من خلال تحصين المناطق المحيطة بها.
3 – استعادة المناطق التي خسرها النظام والانطلاق في اتجاه ريف حلب للسيطرة عليه وإحكام الطوق حول مدينة حلب تمهيداً لاقتحام المنطقة التي تتحصن بداخلها الفصائل المعارضة للنظام على إختلاف تلاوينها.
4 – ترك مهمة ضبط الميزان الاقليمي والمتمثل بتركيا واسرائيل على عاتق موسكو.
يومها كانت روسيا قد أنجزت تفاهماً عريضاً مع الولايات المتحدة الاميركية يقضي بمنحها مساحة زمنية في سوريا للحدّ من القدرات العسكرية لـ «داعش» و«جبهة النصرة»، وإعادة تعديل موازين القوى الداخلي تمهيداً لضبط الساعة السورية على توقيت المفاوضات الجاري التحضير لها في الكواليس لإنجاز التسوية السورية قبل نهاية صيف 2016، أو بتعبير أدق قبل رحيل الرئيس الاميركي باراك اوباما عن البيت الابيض.
صحيح أنّ الدخول الروسي أعطى دفعاً قوياً وأدّى الى انقلاب في موازين القوى، لكن تبيّن معه أنّ هدف حلب ما يزال بعيداً، من جهة بسبب تطلّب الوضع مزيداً من القوات الجوية والعسكرية، ومن جهة أُخرى بسبب استمرار الدعم التركي الخفي للمجموعات المتطرّفة بسبب خشيتها من رهان روسيا على الأكراد أو «العدوّ الرقم واحد» لأنقرة، والنية بالسيطرة على حلب ما يعني القضاء على التأثير التركي المباشر في الساحة السورية.
وبعد الاصطدام التركي ـ الروسي الجوي وجدت موسكو نفسها ملزمة بمقارعة التحدي وإرسال أسلحة طابعها استراتيجي لتأكيد جدّية قرارها ومشروعها في سوريا. وفي هذا الوقت جرت إعادة درس شاملة للثغرات ونقاط ضعف الحملة العسكرية، وبالتالي وضع خطة جديدة هدفها النهائي حلب وهو ما يشكل بالنسبة الى النظام السوري وإيران على حدٍّ سواء هدفاً مركزياً ملحّاً سيعني في حال تحققه اعلاناً صريحاً بالنصر ولو غير الكامل.
وبعد زيارة الرئيس فلاديمير بوتين التاريخية لطهران بدأت المرحلة الثانية من العمليات العسكرية بزخم اكبر وخطة جديدة. فلقد ادخلت دمشق للتو فرقة مشاة مؤلفة من نحو ستين الف مقاتل تمّ تجنيدهم وتدريبهم في مستوى عالٍ، اضافة الى قوات جديدة لحزب الله، وشكلت هذه القوات رأس حربة في كثير من المعارك الصعبة، اضافة الى متطوّعين أفغان وعراقيين.
من جهتها روسيا استخدمت اسلحة جديدة وقوى نارية هائلة بعد تعزيز مستودعات ذخيرتها وتولّت غرفة عملياتها إدارة المعارك استناداً الى الاقمار الصناعية والتقنية المتطوّرة في التشويش واختراق شبكات التواصل اللاسلكي. وأدار غرفة العمليات نائب رئيس الأركان الروسي.
حققت المرحلة الثانية كثيراً من المكاسب الميدانية المهمة قبل أن تعلن القيادة الروسية إصرارها على أولوية انتزاع تَدمُر بخلاف الرأي الايراني
والسوري بإبقاء زخم الهجوم في اتجاه حلب. فتدمر لا تمثل قيمة عسكرية كبرى وسط الصحراء المحيطة بها فيما تطويق حلب له وقع آخر وهائل. لكنّ الرأي الروسي كان أنّ العالم يعاني من تهديدات «داعش» وإرهابها، وهو ينظر الى عمل فوري يكسب فريق النظام تأييد الرأي العام الغربي.
أضف الى أنّ لتدمر وقعاً عالمياً بسبب رمزية الآثار التي تحتويها، ما يعني أنّ الصدى الذي ستُحدثه معركة تدمر سيكون كبيراً ومدوياً وهو ما يحتاجه النظام على أبواب مفاوضات جنيف.
في هذه المرحلة أعلنت روسيا عن سحب جزء من قوتها مبرِّرة ذلك بضرورة توظيفه في المناخ التفاوضي ومن باب إثبات حسن النية ومؤكدة التزامها مهماتها العسكرية والتي يأتي في طليعتها السيطرة على تدمر.
وبالفعل ومع السيطرة على تدمر توافد الصحافيون من كلّ أصقاع الدنيا الى سوريا بهدف زيارة مدينة الآثار التاريخية، وكان الوقع المعنوي لاستعادة هذه المدينة كبيراً.
لكنّ للموقف السوري تفسيراً آخر في العواصم الغربية، ذلك أنّ ديبلوماسيين بارزين أعطوا القرار الروسي بالذهاب الى تدمر بدل حلب بُعداً سياسياً كبيراً ففي رأي هؤلاء أنّ موسكو الملتزمة اتفاقها مع واشنطن بالشروع في التسوية السياسية كانت تدرك جيداً أنّ النجاح في السيطرة على ريف حلب بكامله وتطويق مناطق معارضي النظام داخل المدينة تمهيداً لاقتحامها قد يؤدّي الى نسف الركائز التي تقوم عليها المفاوضات، ومن ثمّ التسوية السياسية.
ففي حلب مروحة واسعة من التنظيمات المعارضة مع ما تمثل من امتدادات خارجية لتركيا حصة وافية منها. وإنّ موسكو الملتزمة العملية السلمية وفق توازناتها الدقيقة اختارت نصراً في تدمر بدل حلب يساعد في دفع المفاوضات بدلاً من أن يعرقلها أو ينسفها.
ولذلك ربما أكثرت القيادة الروسية من رسائلها المشفّرة في اتجاه حليفتها إيران، رسائل مؤداها أنّ اللعبة العسكرية محكومة بسقف سياسي لا يجب تجاوزه. وجاءت رسالة استقبال الرئيس سعد الحريري في هذا الاتجاه.
لكنّ إيران أعلنت، وللمرة الاولى، عن إرسال مجموعات من قوات النخبة لديها رسالتها الواضحة بأنها متمسكة بإنهاء وضع حلب للدخول في التسوية السياسية.
في هذا الوقت تلقت القوات المتحالفة مع النظام ضربة مفاجئة وموجعة جنوب حلب. تقدّمت «جبهة النصرة» معزَّزة بمجموعات من المعارضة على أساس أنّ وقف اطلاق النار لا يشملها ونفذت عملية مباغتة أدّت الى خسائر فادحة في الأرواح تجاوزت المئة والخمسين وطاولت جنوداً سوريين ومتطوّعين أفغان وعراقيين وكان نصيب حزب الله 14 عنصراً.
لكنّ وقف اطلاق النار لم يهتز وبقيت إيران مصرّة على أولوية حلب على رغم النزاع السياسي العنيف الدائر بين المحافظين والإصلاحيين. هذا النزاع وصل الى حدّ «تخوين» الشيخ هاشمي رفسنجاني والى الإطاحة بالمسؤول في وزارة الخارجية أمير حسين عبد اللهيان والى إلغاء الرئيس الايراني زيارته الأوروبية.
قد يكون للعواصم الغربية رأي آخر في استعادة حلب، أي أن تكون العملية استكمالاً للتسوية السياسية وأن تبقى التوازنات في سوريا مؤمّنة في حدّها الأدنى.
ففي المرحلة اللاحقة، أو النهائية، سيكون هنالك لما يشبه القوات من الدول الاسلامية وتحت القيادة الأميركية دور في طرد «داعش» والقضاء عليها. وهذا ما تسعى اليه السعودية لكن قبل ذلك هنالك الاتفاق السياسي.
في هذا الوقت تبدي السعودية كثيراً من المرونة مع الحوثيين في اليمن والاستعداد للدخول في تسوية، لكنّ إيران في المقابل ترى في هذه الخطوة فرصة لوضع اليمن وسوريا في سلة تفاهمات واحدة.
ووسط هذا التشابك ورسائل الضغط انفجرت بين اذربيجان حليفة تركيا وارمينيا حليفة إيران والتي تتمتع بعلاقات ممتازة مع روسيا، لكنّ المشكلة بالنسبة الى إيران أنّ في التركيبة الإيرانية أقلية لا بأس بها من أصول أذربيجانية وهو ما يهدد باستعادة الحساسية داخل تكوين المجتمع الإيراني.
لعبة عضّ أصابع وتصادم مشاريع وتعزيز أوراق عند أبواب تسوية سوريّة تفتح الباب أمام شرق أوسط جديد، لعبة أفقها الزمني حدّه الأقصى بداية الخريف المقبل، وسط رهان دولي على أنّ إيران لن تغامر كثيراً بالانجازات التي حققتها وتترك الأبواب مشرّعة أمام إدارة أميركية جديدة ستكون أكثر تشدّداً من الحالية.