IMLebanon

بين صحافة لبنان ونفطه

أيام قليلة فصلت بين إقفال صحيفة لبنانية رئيسية وبين إقرار مجلس الوزراء مرسومي تنظيم استخراج النفط والغاز من البحر المقابل للشواطئ اللبنانية. لا رابط ظاهراً وسببياً بين الحدثين، بيد أنهما يعلنان عن تغييرات عميقة يمر بها البلد الصغير.

تُفصح أزمة الصحافة اللبنانية عما هو أبعد من الصعوبات المالية التي رُفعت كمبرر لإقفال صحف وتوقف أخرى عن دفع رواتب موظفيها لاشهر طويلة، شأنها في ذلك شأن وسائل إعلام مرئية ومسموعة عدة. لم يعد من معنى للمباراة بين الحجج والأفكار السياسية المختلفة في ظل تقاسم شديد الوضوح للجمهور بين الطوائف. اندثار المواطن المفترض الذي تتوجه إليه الصحيفة وتحوّله إلى عضو في جماعة تسيّرها مصالح تتعالى على المصلحة والوعي الفرديين، افضى الى اختفاء القارئ اليومي المتابع للحوادث والباحث عن خلفياتها، وحلول «النصير» المؤيد لجماعته ظالمة او مظلومة، الساعي الى تأكيد وعي معد سلفاً ومجهز له ولأشباهه.

اختفاء الصحافة، بعد اضمحلال الأحزاب والنقابات في لبنان، يقول الكثير عن انحسار مساحة الحريات العامة والفردية من جهة، وعن انعدام قدرة الفئات الاجتماعية خارج القيد الطائفي على انتاج خطابها والحفاظ على ديمومة وسائله، من جهة ثانية. ناهيك عن انتفاء الحاجة والتمويل الخارجيين اللذين انعشا صحف بيروت التي كانت جزءاً مهماً من الصراعات العربية – العربية ومن القضية الفلسطينية ومن محاولات انشاء الدول الوطنية في المشرق. الظواهر هذه كلها باتت في مكان شديد البعد عما تستطيع ان تصل اليه أو ان تفكر فيه الصحف اللبنانية، بأدواتها المفوتة.

الهزال المتفاقم للمجتمع المدني اللبناني ومؤسساته الرقابية على السلطات، والتي كانت الصحف من أهمها، فتح الطريق امام نوع جديد من التسوية بين المكونات الطائفية يقوم على دفن الرأس في الرمال المحلية والظن ان ذلك يكفي للاختفاء من طريق الأعاصير الإقليمية والدولية.

ينهض «الغرق في الذات» اللبناني على فكرة خلاصتها ان في الوسع العمل على تحصين لبنان ودرء الاضطرابات الأمنية والسياسية الواسعة عنه بغض النظر عما يجري في جواره. تنجح او تخفق هذه الفكرة بقدر نجاح او إخفاق التسوية الشاملة بين الأطراف المتحاربة في المحيطين القريب للبنان والأبعد قليلاً منه. في انتظار ذلك، تدور مغامرة التسوية الداخلية بين حدّي الحفاظ على اتفاق الطائف من دون رعاته الإقليميين والدوليين، وبين السير الى تغيير في النظام السياسي بناء على انتصارات النظام السوري و «الحشد الشعبي» العراقي.

يظهر هنا النفط والغاز، كعنصر رئيس لتمويل الدولة بعد جفاف الموارد «الخيرية» القديمة. وليس بعيداً من الصواب ذاك الشك الذي عبّرت عنه اطراف سياسية حيال شفافية استخراج النفط والآلية المرتبطة بتوزيع عائدته. فالأقرب الى الصواب ان الصفقة التي اتاحت انهاء الشغور الرئاسي وتشكيل الحكومة ونيلها الثقة، انطوت ايضاً على تفاهمات في شأن النفط. وبالقدر ذاته، ليست صدفة ان «الجلسة الإنتاجية الأولى» للحكومة شهدت اقرار مرسومَي النفط.

تبرز هنا ملامح تقاسم جديد للسلطة والثروة بين «العائلات» اللبنانية، والأرجح ان اللبنانيين سيحظون ببعض الفتات من موائد اصحابها. ميزة التقاسم هذا انه سيجري بعيداً من عيون صحافة مهنية وموضوعية، بعد انجاز تطويع وترويض اللبنانيين، بالغرائز الطائفية وبالحاجة المادية الملحة. بالخوف من السلاح خارج اطار الدولة، وعليه. بدفع الشباب الى الهجرة. بتحطيم كل نواحي الاجتماع اللبناني العابر للانتماءات الصغيرة.