أخيرًا، خرج «حزب الله» عن صمته الذي انتهجه إزاء حراك المجتمع المدني المطلبي.
على لسان رئيس كتلة «الوفاء للمقاومة» النائب محمد رعد، طرح الحزب علامات استفهامٍ بديهيّةٍ ومشروعة من حركةٍ لا يعرف اللبنانيون من يقودها فعليًا، ولا يعرفون ما هو برنامجها الحقيقي وخياراتها الاستراتيجيّة، وجلّ ما يعرفونه أنّ عناوينها برّاقة ورنّانة، تعني كلّ اللبنانيين الذين يئنّون ويتألّمون في الصميم.
سأل رعد عن هوية الذي يقود الناس في الساحات، فأتاه الجواب سريعًا على لسان وزير الداخلية والبلديات نهاد المشنوق، الذي تحدّث عن دولة عربية وصفها بـ«الصغيرة»، قائلاً أنّها تقوم بدور فعال في التمويل والتحريض على التظاهر، واعدًا بالكشف عن هويتها «عند اكتمال التحقيقات».
هكذا إذاً، يبدو أنّ «نظرية المؤامرة» انتصرت على «عفوية المطالب» التي يرفعها الحراك الشعبي، نظرية تؤكدها شكوك النائب رعد، ومعه شريحة كبيرة من الشعب اللبناني، وترسّخها اتهامات المشنوق الواضحة، والتي لا توحي بأنّها تنتظر اكتمال تحقيقات أو ما شابه.
بحسب مصادر سياسية متابعة، فإنّ شعار «كلن يعني كلن» الذي رُفِع في الساحات، ووُجّه بالدرجة الأولى إلى الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله وكذلك رئيس تكتل «التغيير والإصلاح» العماد ميشال عون، كان بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، خصوصًا أنّ هذا الشعار بدا في مكانٍ ما «استفزازيًا»، لأنّه يساوي بين «الجلاد» و«الضحية» بشكلٍ لا يقبله عقل ولا ضمير. وتلفت المصادر إلى أنّ هذا التركيز على «إقحام» كلّ من السيد نصر الله والعماد عون، معطوفاً على تجهيل «الفاسد الحقيقي» الذي لا يحتار اثنان في أمره، كان من الطبيعي أن يثير الريبة والشكّ، ريبة لا تنطبق بالتأكيد على كلّ من نزلوا إلى الشارع، لأنّهم في غالبيتهم العظمى صادقون ونواياهم سليمة من دون شكّ، إلا أنّهم لا يعرفون من يحرّكهم وبأيّ هدفٍ بالتحديد.
وتلاحظ المصادر أنّ النائب محمد رعد كان واضحًا في كلامه، فهو حرص على عدم الوقوف موقف المعارِض للحراك في «مبدئيته»، لأنّه ينطلق من شعاراتٍ محقّة ومشروعة، بل ذهب أكثر من ذلك ليتحدّث عن إيجابيّةٍ بالتعاطي معه، وليقول أنّه يريد «أن يكون المعتصمون بالملايين ليشاركوا في الصراخ ضد الفساد ومحاسبة المسؤولين الفاسدين»، ولكنّه حرص في المقابل على وجوب أن تكون الأمور شفّافة وواضحة حتى لا يُخدَع أحدٌ، داعيًا من يقود هذا الحراك إلى أن يكون واضحًا مع الناس الذين يريدون اليقين والإطمئنان والقناعة بالبرامج.
وفقاً للمصادر، فإنّ الأسئلة التي طرحها رعد من قبيل «مع من يتظاهر الشعب وتحت راية وقيادة من، وضمن أي برنامج وطني؟وهل الذي يريد إزالة الفساد يشخص بالدقة طريقة معالجة الفساد ومكافحته؟مشروعة، خصوصًا أنّ قيادات الحراك التي تذهب لحدّ المطالبة باستقالة الحكومة لم تطرح عمليًا أيّ بديل لإدارة المرحلة الانتقاليّة بالحدّ الأدنى، وكأنّ المطلوب هو إلحاق البلاد بمشروع «الفوضى المتنقّلة»، التي لم تعد توفّر دولة في المنطقة من «شرّها».
أكثر من ذلك، لا تتردّد المصادر في تشبيه الأمر في إحدى زواياه بما سُمّي بالثورة السورية التي تشدّق بها الجميع للوهلة الأولى، فإذا بها تتحوّل إلى «جحيم» بكلّ ما للكلمة من معنى، بعدما حوّلت سوريا من «جنّة الاستقرار» في المنطقة إلى «جحيم الفوضى والخراب». هي تذكّر كيف أنّ أشدّ المتمسّكين بنظام الرئيس بشار الأسد اليوم تعاطفوا مع «الثورة» في اليوم الأول انطلاقاً من المطالب المُحِقّة التي رُفِعت فيها، قبل أن تنحرف سريعًا عن مسارها، لتصبح «مؤامرة» عن حقّ.
وتأتي الاتهامات التي وجّهها المشنوق لدولةٍ عربيةٍ صغيرةٍ بالتحريض على التظاهر لتعزّز هذه القراءة، علمًا أنّ المصادر تؤكد أنّ الدولة المقصودة هي قطر كما تشير كلّ المعطيات، ولا تستبعد وجود دورٍ للولايات المتحدة الأميركية على هذا الصعيد أيضًا، تجلى بوضوح مع حماسة السفير الأميركي ديفيد هيل للمظاهرات ورفضه قمع السلطات لها. وتشدّد المصادر على أنّ المشنوق ما كان ليطلق هذا الاتهام شبه الصريح لو لم يكن لديه أدلّة ملموسة تثبت كلامه، وهو الذي يعلم أنّ بيئته الحاضنة قبل غيرها لن تتحمّس له، وفيها من لم يتردّد في توصيف الحراك بـ«انتفاضة الاستقلال الثانية»، علمًا أنّ التغطية الإعلامية غير المسبوقة المسخّرة لهذا الحراك، مثلها مثل التمويل غير البسيط الذي يحظى به، تبدو داعمة بشكلٍ أو بآخر لهذا الموقف.
المفارقة، وسط كلّ ذلك، بحسب المصادر نفسها، هي أنّ شكوك رعد واتهامات المشنوق أتت مكمّلة لا مناقضة لبعضها البعض، لدرجة بدا وكأنّ رعد يهيئ الأرضيّة للمشنوق ليدلي بدلوه، ويمكن اعتبار ذلك تطوراً نوعياً بعدما كان «تيار المستقبل»، الذي ينتمي إليه المشنوق، يتهم «حزب الله» في وقتٍ سابق بأنه «القائد الخفي» للحراك تحت ستار «سرايا المقاومة»، بل إنّه من يريد الوصول إلى الفوضى من أجل فرض المؤتمر التأسيسي. ولعلّ «نقطة الالتقاء» التي تجمع بين «المستقبل» و«الحزب» على حدّ سواء، بحسب المصادر، هو تمسّك الجانبين عمليًا بالحكومة الحالية، هي التي تشكّل ثقلاً أساسيًا لـ«المستقبل» ولا يرى «الحزب» الوقت مناسباً للتفريط بها، وهو الذي أبلغ حليفه «التيار الوطني الحر» أكثر من مرّة أنه باقٍ إلى جانبه في كلّ مطالبه شرط عدم المساس بها.
في الختام، قد يرى البعض أنّ من الظلم أن يتمّ اللجوء دائمًا للحديث عن «مؤامرات» كلما قرّر شعبٌ رفع الصوت عاليًا، خصوصًا إذا كانت الدوافع والمقوّمات الحقيقية لأيّ «انتفاضة» متوافرة وأكثر، ولكنّ الواقع يقول أنّ بعض الملابسات تبقى بحاجة لتوضيحات، وفي ذلك مصلحة للحراك قبل غيره، إذا كان ناصعًا ونظيفاً…