مثلت المحطة الثامنة لمحادثات جنيف الاختبار الأكثر جديّة للانتقال من منطق الارتباط ووقف النار في المناطق الأكثر استقراراً الذي انتهت إليه مفاوضات آستانة، إلى البحث عن أطر دائمة للحلول، بخاصة بعد الانتهاء نظرياً من «داعش».
هنا، لا يستطيع بشار الأسد التذرع بالمقاربة الأمنية التي بررت له عدم الاعتراف بالمعارضة ووصفها بالإرهابية، ولا تستطيع روسيا التفلت من الالتزام بما تعهدت به منذ البداية، وهو التمسك بأن مستقبل الأسد يحدده السوريون أنفسهم عبر انتخابات يشترك فيها اللاجئون باعتبارهم محسوبين على المعارضة!
لكن، كلما ابتعدت بوادر الحل السياسي تعقد المشهد أمام الروس الذين بات عليهم المفاضلة بين السير بالأجندة الإيرانية في الداخل أو البحث عن استقرار يتيح لهم حضوراً آمناً طويل الأمد في الساحل السوري. فحضورهم هناك عليه أن يحدد وجهة تطلّعه في المستقبل إما شرقاً أو غرباً. وروسيا التي تخشى انزلاقها إلى استنزاف في الصراع السوري، وضعت نفسها أمام خيارات محددة لا بد أن تنعكس على استراتيجيتها الشرق أوسطية كلها.
فالحضور العسكري في قواعد ذات طابع استراتيجي في طرطوس واللاذقية، يخولها الإشراف على مياه المتوسط ومد نفوذها إلى شمال أفريقيا بدءاً من مصر وليبيا، ما يجعلها أكثر إحاطة بالجغرافيا الأوروبية. وفي حال ذهبت في هذا الاتجاه باعتبارها قوة عالمية، فإنها إذّاك تنزه نفسها عن الغرق في تناقضات معقدة فشلت في إدارتها تاركة لإيران وإسرائيل إيجاد توازن يتوزع بينهما في وسط الساحة السورية وجنوبها. ذلك في الوقت الذي انتقلت فيه الولايات المتحدة إلى تصحيح علاقاتها بتركيا كمدى حيوي يحمي ظهرها في الحضور الاستراتيجي في سورية والعراق، وأكدت حضورها المستدام على الأراضي السورية هي الأخرى.
وأمام روسيا خيار آخر وهو أن تذهب بعيداً في الانخراط الداخلي من موقع الوصي على النظام السوري، وفي هذه الحال سيكون مآلها التورط في تنافس تلقائي مع حسابات إيران التفصيلية.
خيارات مفصلية أمام الرئيس فلاديمير بوتين في هذه المرحلة تستدعي منه إعادة تحديد خياراته، بخاصة بعد تأكيد الولايات المتحدة أهمية ما يحصل في أوكرانيا وانعكاسه على العلاقة مع الروس. وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون أكد في اجتماع وزراء خارجية «دول منظمة الأمن والتعاون في أوروبا» في فيينا أن العقوبات المتعلقة بالقرم ستبقى إلى أن تعيد روسيا السيطرة الكاملة على شبه الجزيرة إلى أوكرانيا وتسحب قواتها من دونباس وتفي بالتزاماتها في اتفاق مينسك.
إن ما قدمته روسيا في الحرب على الإرهاب في سورية أتاح لها رعاية تقنية للمفاوضات بين السوريين لكن من دون القدرة على التقرير فيها. وعلى رغم التنسيق العسكري والمساكنة التكتيكية مع الغرب في الأجواء السورية، والتسويات والصفقات الإقليمية التي أجرتها مع تركيا وإيران وإسرائيل والسعودية، فإن ذلك لم يُصرف في مسألة رفع العقوبات عنها أو في التوازن الأوروبي مع الأطلسي أو في انتزاع القرم والاعتراف به لروسيا.
وعلى رغم نجاح روســـــيا في تكريس سياقات آستانة وسوتشي كمحطات حوارية، فإنها لا تمتلك مفاتيح التوصل إلى خواتيم ونهايات لأزمات بهذا الحجم. خبرة الروس في إدارة التناقضات الشرق أوسطية ترتكز على وسائط القوة ويحفزها التنافس المستدام مع الغرب بينما تفتقر إلى المقاربة الديموقراطية التي أصبحت أكثر إلحاحاً في عصرنا الحديث.