برز في هذا الاسبوع موقفان سياسيان لافتان في مضمونهما. الاول للأمين العام لـ»حزب الله« السيد حسن نصرالله، الذي بدا ضعيفاً مهزوماً، مستبدلا عبارات «النصر» بأخرى تتحدث عن «خسارة جولة»! والثاني للرئيس سعد الحريري رداً عليه. الذي أكّد بـ«حزم» ان «الحكومة اللبنانية والجيش واغلبية الشعب، غير معنيين بالدعوة الى القتال وتنظيم المعارك اللاأخلاقية واللادينية واللاوطنية في القلمون». وبين الموقفين، يرى مراقبون، ان ما حمله نصرالله والحريري، من تراجع للاول وتأكيد للثاني على الثوابت الوطنية، انما يعكس طبيعة ما آلت اليه المعارك السياسية والميدانية في المنطقة: تقدم العرب مقابل تراجع ايران.
بدّد نصرالله كل التوقّعات. خطابه الأخير لا يشبه أياً من خطاباته الكثيرة على مدى 4 سنوات. حتى ان نصرالله الذي اعلن، في نهاية تشرين الاول من العام 2013، امام مجموعة من كوادر حزبه، أن «محور الحرب على سوريا انهزم ومحور المقاومة انتصر، ونحن في الربع الساعة الاخير قبل ترجمة هذا الانتصار»، لم يكن نفسه الذي «تواضع« امام تقدّم المعارضة السورية والتغيرات التي شهدها الميدان السوري، معترفاً بـ»خسارة جولة وليس الحرب». لم يرفع نصرالله من عزيمة جمهوره «المتراخية»، وانتقل من موقع الهجوم الى موقع الدفاع:»تُخاض علينا حرب نفسية»! حتى ان الكثيرين تساءلوا: اين ذهب «الإصبع» الذي لطالما لوّح به بوجه «المتآمرين التكفيريين»؟! اين نبرة صوت زعيم لطالما وعد انصاره بـ»نصر» محتّم ؟!
ما هكذا دخل نصرالله الحرب قبل أكثر من سنتين. ما هكذا كان صوته ولا وعده حين كان يحشد لتدمير «القصير». خطاباته وإعلامه وأغاني منشديه لم تكن لتقول إن «الحزب الإلهي» يمكن أن يخسر جولة. حتى حين خسر الجولة الأولى في القصير وفقد فيها ما يقارب من مقاتليه، واجه ذلك بالنكران، وردّ بسياسة الأرض المحروقة. قيل كثيرا حينها إن الحسم في سوريا (لمصلحة النظام) بات مسألة وقت بعد أن دخل «رجال الله» المعركة. لم يكن العقل الجمعي يقبل احتمالا آخر.
ثقافة «كما وعدتكم بالنصر دائماً» لا تتحمل الهزيمة موقتاً، لا في معركة ولا في حرب، لا في جسر الشغور ولا إدلب ولا باشكوي ولا بصر الحرير. ما سربته صحافة «الممانعة« أن نصرالله نفسه الذي وعد جمهوره «بالنصر دائماً ومجدداً» قال للنائب ميشال عون قبل أيام، «إن السيطرة على سوريا بأكملها صارت مستحيلاً». في أحسن الأحوال هو يعترف بما قيل له من خصومه السياسيين في لبنان؛ إنه يغرق في حرب هو أعجز من أن يحسمها.وهذا ما جدد الدعوة اليه الرئيس سعد الحريري مساء امس الاول، اذ خاطب نصرالله، بأنه «آن الأوان بساعة للوعي، وباعلان الانسحاب من الحروب الاهلية العربية ومن النزاعات في اليمن والعراق وسوريا، اذا كان يخشى من مخطط اميركي لتقسيم المنطقة».
انطلق نصرالله في خطابه من اليمن، وتعامل مع هذا الملف كما لو كان يتحدث عن الضاحية او النبطية (بحسب الرئيس الحريري)،متسائلاً عن «الاهداف التي تحققت منذ بدء العدوان الى اليوم»، ومعلناً «هزيمة السعودية امام صمود «الشعب اليمني» ! لكن اذا كانت هزيمة السعودية تعني عدم القضاء على الحوثيين خلال 40 يوماً، فماذا يسمي «سيّد المقاومة» قتال حزبه لسنتين بمساندة الطيران وبراميل البارود من دون القضاء على الثوار السوريين على بعد كيلومترات قليلة من مواقعه؟! ومن ثم يدعوه واجبه كـ»مواطن عربي» ليسأل عن «الواقع الانساني والمأسوي في اليمن»، متحدّثاً عن «استخدام العدوان اسلحة محظورة دولياً، وعن منع وصول الاغاثة الغذائية والطبية للشعب»! وكأن نصرالله قرّر الحديث عن معاناة الشعب السوري المتواصلة منذ 4 سنوات. وكأنه تحدّث، وهو المشارك في قتل الشعب السوري، عن قصف الغوطة بالكيماوي، وحصار قرى ومدن ريف دمشق، الذي ادى الى استشهاد آلاف النساء والاطفال بفعل صرخات الجوع، وعن حصار مخيّم اليرموك للاجئين الفلسطينيين، حيث لم يسمح بإدخال «قشة» اليه منذ سنوات (باستثناء تسلل داعش طبعا)!
وبعد أن جفّ لعابه، وشرب أكثر من نصف كوب من العصير «الأصفر»، أكمل نصرالله خطابه متحدّثاً هذه المرة عن العراق. حذّر»سيّد المقاومة» من ان «موافقة الكونغرس على تسليح قوى عراقية على اساس طائفي وعرقي من شأنه ان يشرعن تقسيم العراق». يتبيّن في نهاية المطاف، ان تقديم ايران السلاح والمال والدعم اللوجستي لميليشياتها المذهبية من «عصائب اهل الحق» و»الحشد الشعبي» ، اللذين قتلا ودمّرا وهجّرا وذبحا على اساس عرقي ومذهبي، انما يأتي حفاظاً على وحدة العراق، بينما تسليح الولايات المتحدة للعشائر العراقية التي تواجه داعش داخل بيئتها، قد يهدّد العراق بالتقسيم !
ومرّ نصرالله على «القلمون» مرور الكرام، اذ اكد ان حزبه سيدفع فاتورة الدم في القلمون، بعد ان فقد الامل من «الدولة اللبنانية غير القادرة على معالجة المواضيع»! وفيما اكدت مصادر عسكرية لـ»المستقبل»، ان «الجيش لن يدفع الفواتير للدفاع عن النظام السوري، وسيكتفي بمهامه في حماية الحدود من خطر تسلل المسلحين الى داخل القرى والمدن اللبنانية»، قال الرئيس الحريري ان « نصرالله يتعامل مع الحدود اللبنانية جنوباً وبقاعاً وشرقاً وشمالاً كأراضٍ لحزب الله يتحرك فيها على هواه ويبيع ويشتري الحروب كما يشاء».
في المحصلة، سيكتب التاريخ عن الخامس من ايار 2015، وربما سيحدد التوقيت: في الساعة الثامنة والنصف من تلك الليلة، خرج رجل لطالما تمتع بكاريزما فريدة، خرج ضعيفا مهزوما. لم يُشبع رغبات جمهوره المتعطش لـ«النصر مجددا»، لم يُجب عن تساؤلات «بيئته» وهواجسها، لم يرفع اصبعه، لم يصرخ، لم يهدد، لم يعد بـ«النصر مجددا». رجل تواضع واعترف بـ«خسارة جولة»، تحدث عن اليمن من باب «الواجب»، تحدث عن معركة القلمون «الحتمية» دون تقديم تفاصيل. رجل احترف الحروب النفسية، بات يشتكي من اثر الحرب النفسية في جمهوره. رجل حذر من الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي. رجل اعتاد حزبه تصوير اقتحاماته لتلة سجد جنوبا، بات جمهوره يشاهد تصويرا لتنزه المقاتلين السوريين في عقر مواقعه. سيذكر التاريخ انه في الخامس من ايار 2015، وكأن نصرالله خرج ليهيئ جمهوره لـ«مرحلة ما بعد الاسد«!