ما كان مُتوقّعاً من قبل الكثير من المُتابعين للوضع السياسي الداخلي حصل بحذافيره، حيث غاب التوافق عن ملفّ التعيينات، وحلّت مكانه سياسة الأمر الواقع المُتمثّلة بتأخير تسريح مدير عام قوى الأمن الداخلي اللواء إبراهيم بصبوص، بعكس إرادة «التيّار الوطني الحرّ» الذي قرّر رئيسه المُضيّ قُدماً بخطّته التصعيديّة مهما كلّف الأمر. فأين تتجه الأمور، وما هو موقف بعض الأطراف الأساسيّة منها؟
بحسب كل المعلومات الواردة من الرابية، القصّة بالنسبة إلى رئيس «تكتّل التغيير والإصلاح» العماد ميشال عون ليست قصّة التمديد للواء بصبوص أو عدمه، أو تعيين قائد جديد للجيش اللبناني أو عدمه، بل تتجاوز ذلك بكثير. فالمسألة بحسب الأوساط «العَونيّة» تتمثّل في تجاهل رأي القوّة المسيحيّة الأكبر شعبياً ونيابياً في مختلف المواضيع، حيث لم يؤخذ برأيها في الماضي القريب لا بموضوع الإنتخابات الرئاسيّة، ولا بموضوع الإنتخابات النيابيّة. ولم يؤخذ برأيها في الأيّام والأسابيع القليلة الماضية أيضاً، لا بموضوع جلسات التشريع النيابيّة ولا بموضوع التعيينات الأمنيّة. والأمثلة أكثر من أن تُعدّ وتُحصى منذ عودة «الجنرال» إلى لبنان قبل عقد من الزمن حتى اليوم، بحسب هذه الأوساط «العَونيّة» التي أكّدت أنّ الوضع لم يعد يحتمل أيّ مُهادنة أو تسويات، لأنّ المطلوب يتمحور بكل بساطة حول إعادة الدور المسيحي الفاعل إلى مُستحقّيه، من خلال الإقرار بأحقّية أن تكون للجهة السياسية المُتمثّلة بالتيّار الوطني الحُرّ الكلمة الفصل في الملفّات والمراكز التي تهمّ المسيحيّين بالدرجة الأولى واللبنانيّين عموماً.
وبحسب أوساط سياسيّة مُتابعة إنّ قرار العماد عون بالتصعيد التدريجي حتى تحقيق المطالب مُتّخذ منذ فترة، وهو قرار حازم ولا رجوع فيه أيّا كانت الضغوط والنتائج. وأضافت أنّه غير صحيح أنّ «الجنرال» سيُصَعّد في ملفّ ويُرخي في ملفّ آخر، أو أنّه سيُساوم على المواضيع والملفّات المطروحة، بحيث ينال مكسباً هنا ويتنازل عن ملفّ هناك. وأكّدت الأوساط نفسها أنّ «الجنرال» مُصمّم على مواصلة مقاطعته لجلسات إنتخابات الرئاسة إلى حين إقرار الفرقاء جميعهم بأحقّيته بأن يكون الرئيس، ومُصمّم على معارضة أيّ تسوية في ملفّ الإنتخابات النيابيّة إلى حين إقرار الفرقاء جميعهم بأنّ على القانون الإنتخابي المُقبل أن يمنح صوت الناخب المسيحي قُدرة حاسمة على إيصال مُمثّليه. وتابعت الأوساط نفسها بالقول: «العماد عون مُصمّم أيضاً على شلّ العمل الحكومي، وعلى إثارة المشاكل والخلافات داخل أيّ جلسة حكوميّة مُقبلة، حتى بت موضوع تعيين قائد جديد للجيش اللبناني». ولفتت هذه الأوساط إلى أنّ العماد عون يستفيد حالياً من قرار «حزب الله» بتغطية تحرّكاته السياسيّة للمُضيّ بتصعيده حتى النهاية، من دون وُجود نيّة بالتراجع أو بالتساهل. وأضافت أنّ «حزب الله» يُركّز في هذه المرحلة وأكثر من أيّ وقت مضى على الوَضعَين السياسيّ والعسكريّ الإستراتيجيّين في الشرق الأوسط ككل، من معركة جرود عرسال إلى معارك العُمق السوري وصولاً حتى المعارك في اليمن، ومن الإتفاق النووي بين إيران ودول الغرب وصولاً إلى صراع السيطرة الإقليميّة بين «محور المقاومة» وروسيا من جهة وكل من تركيا والمملكة العربيّة السعودية وغيرهما من جهة أخرى. وتابعت هذه الأوساط أنّ الصعوبات الحالية على المستوى الإقليمي والتي تتطلّب كامل تركيز وإهتمام «حزب الله» سهّلت تسليمه بقيادة «الجنرال» للملفّات الداخلية، الأمر الذي منح هذا الأخير قُدرة ضغط عالية.
لكن وبحسب الأوساط السياسيّة المتابعة نفسها إنّ الطريق أمام خطط العماد عون ليست مفروشة بالورود، حيث أنّ «تيّار المُستقبل» مُصمّم على إفشالها بكل الوسائل المتاحة، مُستفيداً خصوصاً من تناقضات داخل مواقف ومصالح وأهداف فريق «8 آذار»، وخصوصاً عبر اللعب على وتر التباين الكبير بين العماد عون والرئيس نبيه برّي. وفي هذا الصدد عُلم أنّ «المُستقبل» يملك أكثر من ورقة بين يديه لمُواجهة كل خُطط العماد عون ولإفشالها، وهو قادر على تنفيذ هذا الأمر، كما ظهر من خلال قرار تأخير تسريح خدمة اللواء بصبوص الذي مرّ بحكم الأمر الواقع. ولفتت الأوساط نفسها إلى أنّ «المُستقبل» كان على إستعداد للقيام بتمديد محدود لفترة خدمة اللواء بصبوص لمدّة ثلاثة أشهر فقط، ليتزامن عندها ملف تعيين مدير عام جديد لقوى الأمن الداخلي مع ملف تعيين قائد جديد للجيش اللبناني، لكنّ رفض العماد عون لهذه التسوية دفع وزير الداخليّة نهاد المشنوق إلى تمديد فترة خدمة اللواء بصبوص لمدّة سنتين كاملتين. ورأت الأوساط السياسيّة المتابعة نفسها أنّ «تيّار المُستقبل» يعلم أنّ وزير الدفاع سمير مُقبل المحسوب على الرئيس السابق العماد ميشال سليمان، قادر بدوره على تمديد فترة خدمة العماد جان قهوجي بقرار مُماثل لقرار وزير الداخليّة التمديد للّواء بصبوص. وتوقّعت أن لا تنفع عندها تظاهرات «التيّار الوطني الحر» ولا هجماته السياسية والإعلامية المُرتقبة، في منع تنفيذ هذا القرار في حال بقيت الأمور على ما عليه من تأزّم حتى أيلول المقبل. ودعت هذه الأوساط إلى عدم الإستهانة بقوّة العماد قهوجي الداخليّة، وبالدعم الإقليمي والدَولي الذي يحظى به، بصفته رمزاً من رموز الإستقرار الأمني في لبنان، والتي تضغط مختلف الدول للحفاظ عليه في ظلّ الأوضاع الأمنيّة المُتفجّرة في المنطقة.
وتوقّعت الأوساط السياسيّة المُتابعة أن يقوم «تيّار المستقبل» بالإلتفاف على العراقيل التي يعمل «التيار الوطني الحرّ» على وضعها أمام الحكومة، من خلال مجموعة من الخيارات التي يملكها، والتي تشمل مثلاً قيام رئيس الحكومة تمام سلام بتأجيل عقد الجلسات عند الضرورة لإظهار أنّ مفتاح التعطيل هو بيده وليس بيد «التيّار الوطني الحرّ»، أو قيام مُمثّلي «تيار المُستقبل» داخل الحكومة بالتصدّي بعنف لمحاولة وزراء «التيار الوطني الحُرّ» عرقلة البحث في أيّ ملفّ قبل بت وحسم ملفّ التعيينات الأمنيّة لصالحهم. وأضافت هذه الأوساط أنّ «المُستقبل» يُعوّل على أنّ يتدخّل كل الأفرقاء السياسيّين لوضع حدّ للتصعيد المُنتظر من قبل «العونيّين» لأنّ شلّ الحكومة لا يعود بالضرر على «التيّار الأزرق» وحده، بل على كل الجماعات السياسية من دون إستثناء، وعلى مصالح كل اللبنانيّين، وسيؤدّي إلى خسارة المليارات وإلى وقف عجلة الدولة اللبنانية ككل.
وتابعت هذه الأوساط بالقول إنّ «تيّار المُستقبل» يُعوّل كثيراً على تدخّل الرئيس برّي في نهاية المطاف، لإيجاد المخارج المناسبة، لأنّ شلّ الحكومة بقرار «عونيّ»، بعد شلّ مجلس النواب بقرار «عونيّ» أيضاً مع دعم جهات مسيحيّة أخرى، يعني عملياً وضع الملفّ اللبناني بأسره في الثلاجة، في إنتظار حسم ملفّات كل من المفاوضات الإيرانيّة – الغربيّة واليمن والعراق وسوريا وغيرها، وهذا يُمكن أن يستغرق سنوات، ولن يقبل به أحد مهما بلغ «العناد العوني» بحسب هذه المصادر.