IMLebanon

بين الخراب الكبير والخراب بالتقسيط

 

 

مشهد الشرق الأوسط من عدسة واشنطن غيره من بيروت أو الرياض أو القاهرة. فالعاصمة واشنطن كما أميركا بعامة، تحتضن عالمين كل واحد منهما له مداره، الأول يخص الناس العاديين من أهل هذه البلاد، حيث تشعر كزائر أو مقيم أن مشكلاتنا وقضايانا غائبة عنهم كلياً ولا تعنيهم لا من قريب ولا من بعيد وهم يسعون وراء أعمالهم. العالم الثاني هو للساسة المنشغلين بقضايا كثيرة ومتشعبة. وفي وقت كانت أنظارنا ترصد فيه تحرك الرئيس الأميركي دونالد ترمب في نيويورك، علها تلتقط أي تصريح أو تلميح يصدر عنه لتقدير ذيوله سلباً أو إيجاباً على مصائر شعوبنا وقرارات حكامنا، وكان من المفترض بل والمرجوّ بإلحاح أن تُفضي اللقاءات الثنائية والمتعددة على المنابر وفي كواليس رحاب مقر الأمم المتحدة إلى تحديد مسار النظام الدولي علّه يبتكر حلولاً وتسويات لتجاوز المرحلة الحبلى بالعواصف والأزمات، كانت واشنطن بمجتمعها وأهل الحكم فيها وقيادات المعارضة وحتى كبريات الوسائل الإعلامية غارقة في هموم داخلية، أكثرها ضجيجاً التسابق على السلطة بما لا يليق بالشيم المنشودة لدى قادة الرأي في دولة هي زعيمة العالم الحر.

فخطاب الرئيس ترمب أمام الجمعية العامة لم يحظَ في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ العالم إلا بالقليل من التغطية الإعلامية وبالنزر اليسير من التحليل، مقابل الانشغال حتى الهوس وعلى دوران الساعة بمطالبة رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي، بالبدء بإجراءات التحقيق بهدف عزل الرئيس ترمب على خلفية ما سميت «فضيحة أوكرانيا» واتهامه بالضغط على رئيسها فولوديمير زيلينسكي عبر وقف المساعدات المرصودة لبلاده لدفعه باتجاه اتخاذ إجراءات قضائية بحق ابن نائب الرئيس الأميركي السابق ومنافس ترمب المحتمل في الانتخابات الرئاسية المقبلة جو بايدن، بسبب شبهات فساد تحوم حوله. الأهم في الصورة هو توقيت البدء بالتحقيقات حول احتمال الإقالة مع انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتشبث أنظار العالم بما سيقوله الرئيس ترمب بعامة وبخاصة حول إيران ومع من سيلتقي، وهل سيقرع طبول الحرب أم لا. وبلغت حدة التجاذب السياسي إلى هزال معيب للديمقراطية، يُظهر انقسام المجتمع الأميركي على أغلب القضايا ويبدد الحد الأدنى من الإجماع للحفاظ على هيبة أميركا، لا سيما بشأن مقاربة الإدارة الحالية للعلاقات مع إيران وممارساتها العدوانية وآخرها الاعتداء على منشآت شركة «أرامكو» السعودية.

وفي ظل هذا الانقسام، يبرز توافق فج بين أطرافه على تدني الاهتمام بالشرق الأوسط، لا سيما لجهة التدخل كوسيط خير أو الانخراط الأميركي المباشر في نزاعاته كما لو أن هذه المنطقة زالت من خريطة اهتمامات أميركا وأولوياتها ولم يعد لديها مصالح فيها تدافع عنها، أو أقله تنظر جدياً في حلحلة أوضاعها المتفلتة من باب كونها قوة عظمى. وتأتي زئبقية الإدارة الأميركية الحالية لتزيد الطين بلة، وهي المحيرة للداخل والخارج معاً وتتراوح بين انعزالية مدروسة ومزاجية في الموازنة بين القيم والمصالح.

الغاية من هذا السرد هو الإضاءة على تأثير الحالة الأميركية على أحوال المنطقة ونزاعاتها. ففي حين أن رهانات القادة والمسؤولين وحتى الشعوب في الإقليم معلّقة على ما قد تقْدم عليه واشنطن أو تحجم عنه، نراها في كوكب آخر، تعيش فصاماً بين دور عالمي منحسر إرادياً أو اضطرارياً وبين تدخلات عشوائية لا تسمن ولا تغني وتصريحات النهار سرعان ما يمحوها الليل.

ومع ذلك، يبقى الدور الأميركي مطلوباً من العالم أجمع، ويبقى الرهان معقوداً على تفعيله لا سيما إذا ما راجعنا أحوال القوى العالمية الأخرى من الاتحاد الأوروبي إلى المعسكر الروسي والصيني. فمحاولة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تفعيل الدور الأوروبي بعد ترهل مزمن عبر مبادرة لتسوية الأزمة بين واشنطن وطهران، باءت بالفشل وأدت إلى تعقيد المشكلة عوض تبسيطها، كاشفةً عن حدود الدور الأوروبي وعن منح النظام الإيراني هامشاً للمناورة لا يستحقه.

أما روسيا، فقد بيّنت الأزمة بين واشنطن وطهران أن رئيسها فلاديمير بوتين، يُتقن التكتيك ويفتقر إلى الاستراتيجية وأن قدرات بلاده أضعف من القدرة على التعامل مع أزمة بهذا الحجم. فجُلّ ما يبغيه هو الحفاظ على توازن القوى بين اللاعبين على مساحة الشرق الأوسط، ما يمنح بلاده ميزة لعب دور الوسيط بين الدول المتنافسة لجني الفوائد الآنية ضمن مشهدية عودة موسكو كقوة عظمى إلى الساحة الدولية. فموسكو تريد إمساك الخيط في المنطقة من طرفيه، الإيراني والإسرائيلي، وفي هذا جهل لعقائدية هاتين الدولتين بما سينفجر عاجلاً أم آجلا في وجهها.

أما الصين فهي نموذج لما يسمى «الصبر الشرقي» الذي يراهن على الزمن، وتأمل وتنتظر التورط أو الفشل الأميركي حتى تحصد نتائجه.

والمرجح أن موسكو وبكين متوافقتان، لكي لا نقول متواطئتين في انتظار التعثر الأميركي لحصد نتائجه، بينما يتبين للمتابع عجزهما عن الخروج بمبادرة دبلوماسية وازنة قدر وزنهما في النظام الدولي واستناداً إلى علاقتهما الدافئة مع طهران.

تبقى إسرائيل في المسرح الإقليمي، وكما ذكرنا في مقالة سابقة هي معيار السلم أم الحرب، إنما تبدو هي أيضا منشغلة بهمومها وبانقسام داخلي حاد تظهّره قدرة بنيامين نتنياهو على الاستمرار لاعباً رئيساً في السياسة الإسرائيلية، بحيث عاد مكلفاً بالتشكيل وقد يصبح شريك النصف في الحكومة المقبلة، على الرغم من تراجعه في نتائج الانتخابات إضافةً إلى التّهم الموجهة إليه والتي قد تودي به إلى السجن.

يبقى أن العجز والهموم الداخلية والارتباك باتت السمة الرئيسة لأبرز القوى العالمية والإقليمية المؤثرة، ما يجعل إيران وحدها، وللأسف، قادرة على تحقيق ما تصبو إليه ولا تخشى التهديد بالحرب، بل تسعى إليها أولاً جراء انكشاف هشاشة سياسات القوى الكبرى وسقوط مقولات الحماية والقواعد العسكرية والضمانات، ما دامت أضحت غير قابلة للصرف وقت الحاجة إليها. وثانياً لأن أي حرب عليها مهما كانت مكلفة سوف تخرجها مما تسميه الموت البطيء.

التحذيرات من اندلاع الحرب بين طهران وواشنطن ومن امتداداتها في المنطقة كثيرة، بعضها قد يكون محقاً وبعضها الآخر قد يكون تهويلاً من الخراب الكبير المتوقّع جراءها. إنما أيضاً لا يمكن تجنب هذه الحرب عبر الهروب عوض المعالجة الدبلوماسية مع الردع والمواجهة الصارمة والتي دونهما تبقى الدبلوماسية عقيمة.

الخوف من الخراب الكبير مشروع وضروري، لكن وفق ما يحصل الآن هو خراب بالتقسيط والتقسيط المريح، دون أن يمنع مستقبلاً تفادي حرب قد تكون أكثر تدميراً وإيلاماً وأكبر كلفة على أكثر من صعيد ولكل الأطراف جميعاً.