IMLebanon

بين العقل الإمبراطوري والعقل الجمهوري

 

هرب الرئيس اليمني الانتقالي عبد ربه منصور هادي من اليمن إلى عدن، ومعه الشرعية، بعدما حُوصر مقره ووضع في الإقامة الجبرية من قبل الحوثيين. وهي ليست سابقة، بل العديد من البلدان مرت بهذه التجربة. فالرئيس اللبناني السابق سليمان فرنجية، بعدما تعرّض القصر الجمهوري في السبعينات للقصف، غرفة غرفة، من قبل مجموعات معارضة هرب من القصر ليتخذ مقره في مكان آخر، حاملاً معه الشرعية الرئاسية. في اليمن لجأ الحوثيون إلى الانقلاب ليستولوا على السلطة، بعدما أعلنوا «الشرعية الثورية»، وكذلك ما جرى ويجري في لبنان على أيدي حزب الملالي.

واليوم، مرت تسعة أشهر على انتهاء مدة رئاسة ميشال سليمان، وبدلاً من أن يهرب الرئيس، فقد «هرّب» الحزب الحوثي اللبناني «الرئاسة»، وقطع رأس الجمهورية! وهذه الأخيرة يتولى مهامها مجلس وزراء «توافقي»، في حكومة يمكن أن نسميها ائتلافاً حكومياً، مكوناً من مختلف الاتجاهات القائمة. في اليمن، قاموا بالعملية بقوة السلاح الظاهر، النافر، السافر، بعدما احتلوا العديد من المؤسسات الأمنية والعسكرية والإدارية بما فيها مقر الرئاسة. وعندنا أيضاً «هربت» الرئاسة بالسلاح المخفي، سلاح العتمة، بسرايا دفاع الحزب، وبصواريخه ومقاتليه ومرتزقته. والفارق رمزي يتمثل في بقاء الرئاستين الأخريين: النيابية والحكومية المعطلتين: كل شيء معطل، ما عدا تصريف بعض الأعمال، أو في أفضل الأحوال «جامد»، أو منقوص. لكن ما يجمع الحوثيين في لبنان واليمن أن إيران هي التي تتلاعب بمصير الرئاستين اليمنية واللبنانية. وهذا ما تفوهه وزير الخارجية الأميركي كيري عندما صرّح بأن إيران لعبت دوراً في الانقلاب الحوثي. وأخيراً، نطق كيري، بما يعرفه العالم الأجمع، بما فيها مخابراته، وحكومته، وأجهزته، وصحافته، وشعبه. أفاق فم كيري أخيراً من «الخَرَس» وأعلنها، عندما هرب رئيس البلاد إلى عدن.

لكن لم يكن الرئيس عندنا «انتقالياً»، بل منتخب في البرلمان بالإجماع، ولم يجدد له، لأنه، بكل بساطة حافظ على الدستور، وتمسك بإعلان بعبدا، وطلب من حزب خامنئي العودة إلى لبنان. لا عودة. بل إصرار ليس فقط على توريط لبنان بما يعيشه ويكابده اليوم، بل وبدعوة السيد حسن نصرالله اللبنانيين إلى اللحاق به لمحاربة الشعب السوري دفاعاً عن بشار الأسد الذي لم يعد يمتلك من شرعية إلاّ على «الجو» مع بعض الطائرات، والبراميل المتفجرة، وقصف المدنيين بالكيماوي والكلور، وارتكاب المجازر المتتالية. في سوريا رئيس انتخبه برلمان «غير شرعي» علينا أن ندافع عنه، وفي لبنان، برلمان شرعي يمنع من انتخابات رئيس، بذريعة أن حزب سليماني يريد رئيساً «توافقياً»، وهذا ما لم يتم. في سوريا رأس الدولة «مقطوع» أصلاً، ويجب أن يعاد تركيبه، كما تركب رؤوس التماثيل، وفي لبنان «شغور» مقصود، لكي تستمر الجمهورية «مقطوعة الرأس» والحال ذاتها في ليبيا: كل شيء مقطوع فيها، الحكومة، والرئاسة، والبرلمان المنتخب: زمن المقاصل وبتر الأعضاء، وخلع الرؤوس، وسيادة الدم، والفراغ والموت. لا «دولة» في سوريا. ولا نظام. ولا جيش. ولا أمن: فقط رئيس لم يعد رأساً، وبلد بلا بلد، ونظام بلا نظام. وسلطة بلا سلطة: والحاكم «الجزئي» كسواه، هو سليماني. إيران وداعش والقاعدة والنصرة والجيش الحر تقتسم الأرض، والسلاح، والحكم. أما في لبنان، فالنظام ما زال يُعدّ قائماً، وهو لم يعد قائماً. والحكومة قائمة وهي ليست قائمة. والبرلمان قائم وهو ليس قائماً: إذاً، كل وجود للدولة بات «رمزياً» وجزئياً، ومبتوراً، ما عدا حزب الله الذي أحلّ نفسه محل كل شيء. وحتى محلّ النظام السوري: يدعو السيد حسن نصرالله اللبنانيين إلى الانضمام إلى ميليشياته، وكأن القرار بات في يده في الجمهوريتين. فهناك جمهورية إيران اللبنانية ووكيلها الحزب الإلهي، وهنا جمهورية إيران السورية ووكيلها الحرس الثوري والأحزاب المذهبية المستجلبة من هنا وهناك. الأمر في يد الخارج إذاً، وخصوصاً «جمهورية الملالي» تعبيراً عن قوتها «الإمبراطورية» الممتدة من العراق إلى سوريا إلى لبنان واليمن. وإذا كانت الإرادة الشعبية ومكوّنات النظام، مقسّمة، ومشلعة، لتصبح سوريا وكأنها في جمهوريات عدة، فلبنان أيضاً، وضمن الانقسامات السياسية، يبدو مشلّعاً، ومقسماً، في إرادات معطوبة، أو في تماثلات مجزأة، تغطي أزمته المصيرية قشور من الصراع السياسي، الذي يبدو أنه لم يعد حتى صراعاً سياسياً. فكيف تفهم (ونريد أن يفهمنا حزب الله) أن تستمر البلاد، وللمرة الأولى في تاريخها، بدون رئاسة. بدون مركزية. بدون راجح في الجمهورية، ولا مانع؟ وكيف تدار الدولة بلا رئيس للدولة؟ بل وكيف يجتمع مجلس الوزراء ورأس الجمهورية غير موجود. ويعني أن رأس الحكومة بات «رمزياً» عاجزاً حتى عن إدارة جلسات مجلس الوزراء. في الوقت الذي يبدو فيه البرلمان وكأنه «مهرّب» أيضاً. فعندما «تهرّب» رئاسة من الرئاسات الثلاث، فيعني أن كلها «مُهرّب». كقانون الأواني المستطرقة. لا قوانين تُبت. ولا قرارات أساسية. ولا مواجهة شرعية للأزمات. دعانا حزب ولاية الفقيه إلى اللحاق به (وعلينا دائماً اللحاق به) إلى سوريا، وكأنه يتكلم باسم رئيس الجمهورية: (مبروك)، بل وكأنه أكثر: المرشد الأعلى كوكيل للمرشد العلوي المقدس في بلاد النيروز الفارسية. والأمر عنده سيان: هكذا دعا اللبنانيين عندما استجلب الكيان الصهيوني لشن حرب على كل لبنان، بعد القيام بمغامرته «المشؤومة» بخطف جنود إسرائيليين في حرب تموز، من دون أن يستشير أحداً. إذاً رغبة الحزب في نهش الدولة قطعة قطعة وعضواً عضواً، وافتراسها، من رأسها إلى قدميها ظاهر. إنها اللحظات «الإمبراطورية» متمثلة بإلغاء الجمهورية. والصراع الحقيقي اليوم، سواء في تعطيل البرلمان سنتين في السابق، وانقلاب القمصان السود، و7 أيار، هو بين «العقل» الإمبراطوري الإيراني، وبين عقل الجمهورية اللبنانية. بين العقل الاستعماري وبين العقل الاستقلالي. بين الزحف الفارسي وبين السيادة اللبنانية العروبية. بين الشمولية المذهبية والديموقراطية الجماعية، بين الخطاب المدني، والسلاح الميليشيوي. اللعبة التي دارت فصولها أيام الميليشيات في الحروب الماضية ها هي تتكرر ولكن بطريقة أكثر تراجيدية، ودموية، وتسلطية: الحزب هو الدولة، كما كانت الميليشيات هي الدولة. وبما أن تلك الميليشيات كانت مرتهنة لقوى أكبر منها في الخارج ذي الطموحات «الاحتلالية»، فإن الأمور متشابهة اليوم في الطبيعة، ومختلفة في المستويات والرموز والأدوار. من قبل، قُسمت البلاد تقسيماً «مذهبياً» مناطقياً، في محاولة لإرساء «جمهوريات» منفصلة. لكن كل «جمهورية» أعلنت شرعيتها الميليشيوية كانت مرتهنة لعقل «إمبراطوري» أكبر منها. لكن لم تكن هناك «جمهورية» أمر واقع واحدة. أي كان هناك جمهوريات نظرية خطت حدودها بالدم. اليوم، يريد حزب الله أن تكون كل الجمهورية موحدة بسلاحه، ومنوطة به، وتابعة لإمبراطورية أكبر وأشمل: من قبل لم يعد عندنا لبنان واحد، اليوم، نحن لبنان واحد لكن بلا جمهورية. لبنان «واحد» بمرشد ميليشيوي واحد يريد أن يكون لبنان مقراً وممراً للاستعمار الإيراني: لم تعد الصراعات «الاستعمارية» تتبنى هذه الطائفة أو تلك، في صراعاتها، لتكون موطئاً لنفوذها، بل بدا وكأنه بات صراعاً بلا صراع، مع دولة خارجية واحدة هي إيران. ولهذا، لا نظن أن الحوثيين يريدون مكاسب معينة في النظام اليمني، بل كل النظام دفعة واحدة. وها هم يهددون عدن، ويعتبرون عبد ربه منصور هادي «هارباً» أي خارجاً على القانون، ومطلوباً من العدالة. كل اليمن. يريدون. وكل العراق. وكل سوريا، وكل البحرين، وكل لبنان. وهنا بالذات الدلالة المضمرة: يريدون كل شيء بالقوة. ولكن عبر «حلفائهم». أي «قواتهم» الخاصة. أو ميليشياتهم، لكي لا يبدو الأمر «احتلالاً» مباشراً. والفارق بين إسرائيل وإيران أن الأولى ترسل جنودها وتغزو لبنان مباشرة، والثانية ترسل عملاءَها المحليين، ليبدو الأمر وكأنه ظاهرة «وطنية»، داخلية، لا علاقة لها بها. وهذا ما جعل الأصمّ والأطرش الكبير كيري يسمع، وينطق: إنها إيران في اليمن. لكنه لا يكمل الجملة المفيدة: إنها مع قواته أيضاً في العراق، ومع طائراته في سوريا. وما الفارق بين أن تسعى إيران إلى انقلاب دموي في اليمن، وبين أن تسعى إلى هيمنة دموية في سوريا، أو «سياسية» (مقنعة بالسلاح) في لبنان: الاستراتيجية ذاتها، يُفرّعها كيري وسبق أن فرّعها رئيسه أوباما، وما زال. هذه الممارسة قد شهدناها في العراق، عندما عقد تحالف بين إيران والولايات المتحدة، لإسقاط نظام صدام حسين، وتسليمه إلى الملالي. وهذا ما حصل عندما اتفقتا على الاتيان بالمالكي رئيساً للعراق، وهو عميل إيراني راهن، ومخبر سوريا سابق. رئيس للغلبة على السنّة تحديداً، حيث نكّل بهم، وضمن سياسة الهيمنة الفارسية، اضطهدهم، وأبعدهم عن أي دور. وهذا يعني أنهم لا يريدون أن يتقاسموا السلطة مع أحد. لا أحد. كل العراق لهم. وأي اختلاف بين ما جرى في العراق وما يجري في اليمن وسوريا ولبنان؟ ما زالت المؤامرة مستمرة على الأكثرية السنية، وتهشيمها، وتفريقها، وإزالتها: أوليس هذا ما يفسّر محاولة ضرب الديموغرافية السورية بتهجير الشعب السوري خصوصاً السنة، وتدمير مدنه، وقراه؟ أولم نقرأ أن إيران تشتري عقارات بأموال طائلة، ضخمة في سوريا، وهي عقارات ملك السنة، لإحداث هذا الانقلاب الديموغرافي (سبق أن فعلها صدام وقبله ستالين).

على هذا الأساس لا يمكن اعتبار مسألة انتخاب رئيس جمهورية لبنان محض داخلية. خطابان مضادان، لنصرالله والحريري، يعبران عن صراع الدولة واللادولة، أو الدولة الحرة، والدولة المصادرة. وإذا كان على المحللين أن يسترجعوا خطابات نصرالله السابقة، فلن يبدو أبلغ من مختصر لها مفيد: «أدعوكم إلى اللحاق بنا إلى سوريا»، أي القرار لنا، ولكم الخضوع. وبما أن هذا الحزب هو حزب الخضوع المطلق لإيران، الحضور الصاغر، الحضور الخانع، فمن الصعب أن يقبل «تمرداً« أو انتفاضاً أو صوتاً حراً يطلع. خطابان: الأول لنصرالله صدى من أصداء سليماني والآخر للحريري من عمق الضمير اللبناني. وفي هذا المقام، يتحول الصدى، بقوة السلاح، صوتاً، ليحول الصوت الآخر صدى من خلال أجندة نافرة بوقاحتها، واستعلائها، وجبروتها. صوتٌ «مقاوم» (بعد وفاة المقاومة ألف لا رحمة عليها)، وصوت آخر (الحريري) مقاوم مدني، حي، يعبر عن خوالج الأكثرية اللبنانية. صوت «أقلية» كانتونية كرتونية، مقابل صوت يخترق السدود المذهبية. صوت «غير شرعي» ينتزع شرعية بلا شرعية القوة، وصوت شرعي ينضم إلى شرعية الشعب اللبناني بتولي دولته. صوت «اللادولة» التي تحذف الدولة لتحل مكانها، وصوت «الدولة» الذي يسعى بكل ما أوتي لتعزير الدولة، ولهذا، يجب أن ننسى، أن الصراع في لبنان هو بين مرشح للرئاسة وآخر. وبين كتلة وأخرى. وبين فكرة وفكرة (حزب استغلال الغرائز استنفد كل نزعاته التسلطية لتحضير قسمة مذهبية بين السنة والشيعة). بل كان ما يجري في لبنان هو أصلاً بين حزب يمتشق فأساً ويقطع كل ما يعلو ويتحرك ويتململ، وبين آخرين، يحملون أجسادهم وأفكارهم الحية للدفاع عما هو حي؛ بين حزب الموت والموتى والدم وجنون القتل، وبين ضحاياه ممن قتلوا استشهدوا أو لا يزالون واقفين في وجهه. إنها الآلية التي تهيء نفسها، عند حزب الملالي، لاستكمال اكتساح البلاد، بأجندة منهجية، واضحة المعالم، يطمسها الحزب بكثير من بهارات حسن النية، والتوافقية ومصلحة لبنان (لا تنسوا أن تلفزيون الحزب، مكبّ تفاهات المرتزقة يبدأ برامجه ويختمها بالنشيد الوطني، ويريدنا أن نصدقه! نعم! نصدقه بضحكة مشفوعة بالخجل، والأسى، والسخرية!).

تكلم الحريري ثم نصرالله! وماذا بعد؟ ماذا لو استمر هذا الحزب في تنفيذ مخططه الإلغائي بتحويل لبنان كانتوناً إيرانياً؟ ماذا لو استبقى الحزب سلاحه التقسيمي، التهديدي، باسم المقاومة المرحومة؟ ماذا لو جرّنا مجدداً إلى حروب أبعد من سوريا والعراق؟ ماذا لو استدرج إسرائيل لضرب لبنان والجيش اللبناني؟ بل ماذا لو استجلب مستقبلاً ميليشيات أخرى، من نفايات عوالمه هنا وهناك، ليغرق لبنان بحروب داخلية؟ ماذا لو بقي الحزب على خنوعه الذليل لإيران بعدم انتخاب رئيس للجمهورية؟ ماذا لو عاد إلى سياسة «الاغتيالات» (وهو حزبها الأثيري المجاهد من أجل ثقافة الدم والموت)؟ ماذا لو منع، مستقبلاً، إجراء انتخابات نيابية ليعمّم الفراغ الكبير!

إنها الأسئلة (الدائمة) المطروحة اليوم، بعد خطابي الحريري ونصرالله! وماذا ستفعل عندها أحزاب 14 آذار وتيار الحريري والشعب اللبناني؟ هل تمكن حزباً يُصِمّ «مخه» وأذنيه عن السماع، وقلبه عن الإحساس، ويرفض كل الدعوات إلى «عودته» إلى لبنان كطرف سياسي، لم تلقَ تجاوباً!

إنها أسئلة الحاضر و»المستقبل»: فهل تستطيع مكوّنات 14 آذار الاستمرار في رد السلاح بالكلام؟ هل تستطيع رد أجندة الحزب الإمبراطورية بصراعات حول من يأتي رئيساً ومن لا يأتي. أو حول تعطيل مجلسي الوزراء والبرلمان؟

نعيد: كل ذلك تفاصيل وتمويه. المهم الاستعداد لما هو أدهى، وأخطر: ضمّ الجمهورية اللبنانية إلى الإمبراطورية الفارسية. أما الباقي فكما يقول شكسبير «كلمات كلمات كلمات»!