IMLebanon

بين الداخل والخارج

 

«الحكومة لن تولد قبل آخر السنة»… بهذه الكلمات الست، يرسم أحد كبار السياسيين خطّ النهاية للمباراة السياسية الجارية على حلبة التأليف.

بنبرة جازمة قابل السياسي محدِّثيه، وقارب ملفَ التأليف من موقع العارف بما يجري داخل الغرف المغلقة، وبالخفايا التي جعلته يجزم بشكل قاطع بأن لا حكومة قبل الشتاء المقبل.

طلب محدِّثو السياسي المذكور منه مزيداً يُرشدهم الى معلومة «تفشّ الخلق»، فبادر الى إلقاطهم طرف خيط رفيع يصل بين الداخل والخارج. تجنّب الدخول صراحة في التفاصيل، بل فضّل أن يسترسل بكلام عام، قال عنه إنه «ربما يحمل في طياته الجواب الواضح والأكيد على كل التساؤلات المطروحة».

بنبرة الواثق، بدأ العرض: «بالتأكيد أنه لم يحن بعد موعد توليد الحكومة، والحركة السياسية التي تحصل، وإن كانت تبدو في ظاهرها محاولة لزرع «نُطفة» الجنين الحكومي، لكنها في جوهرها، لا تعدو سوى محاولة لملء فراغ الوقت، بمقطع من مسلسل بدأ منذ تكليف سعد الحريري تشكيل الحكومة، وسيستمرّ، بل سيتكرّر على هذا النحو، الى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً».

الجواب عن مصير التأليف، كما يقول، لا يحتاج الى مبصِّرين أو منجِّمين، يتطلّب قراءةً بسيطةً للخريطة الداخلية بتوزّعاتها وانقساماتها وتبايناتها، ومدى ارتباطها مع الخارج القريب أو البعيد.

في الداخل، لنعد الى البدايات، فقد ساد اعتقادٌ مع تكليف الحريري بأنّ حكومته ستُبصر النور بعد أسبوع أو اثنين على الأكثر، ونام البلدُ على حريرِ هذا الوعد. وسرعان ما استيقظ على إحباط.

ربّما جازَف الرئيس المكلف بهذا الوعد آنذاك، إذ بدا أنّ ثمّة مياهاً كانت تجري من تحت أرجل كثيرين.

فبقدرة قادر طار الوعد وطار الحرير، وتحوّل مسار التأليف الى حقل ألغام وأشواك سياسية وتعقيدات أكثرها مفتعَل أو مضخَّم، وحتى الآن طريق حلحلتها مقطوع عن سابق تصوّر وتصميم، وتحوّلت الى تعقيدات مقفلة، يستحيل معها بلوغ مساحاتٍ تفاهميةٍ مشترَكة.

وبقدرة قادر فُتح اشتباكُ الصلاحيات بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلّف، وبدأ تقاذفُ كرة التأخير بين المقرّات الرئاسية؛ هذا يقول لذاك «إعملْ .. لماذا لا تبادر، الكرة في ملعبك»، وذاك يردّ « الضغوط لا تنفع معي، والكرة ليست في ملعبي، فأنا لم أتوقف أصلاً عن العمل».

وبقدرة قادر صارت الأجواء المحيطة بالرئاسة الأولى حذِرة، وبدأ يتملّكها شعورٌ بأنّ خلفَ الأكمة ما خلفها، يقول المطلعون على هذه الأجواء: «إنّ كل اللقاءات التي جرت بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلف، سادها جوٌّ ممتاز، ورئيس الجمهورية يشجّع الرئيس المكلّف على الإقدام، مقدِّماً له كلّ ما يخدم مهمّته من تسهيلات في سبيل توليد الحكومة، ومزيلاً من أمامه كل ما يمكن أن يُعتبر ملفاً خلافياً داخلياً مع وعدٍ بعدم مقاربتها على النحر الذي يُحرجه او «يزركه». وبهذا الجوّ الممتاز، وبتجاوب الرئيس المكلف ينتهي اللقاء، وينتظر رئيس الجمهورية ترجمة هذا الجوّ، لكنّ انتظارَه يطول ولا يحصل أيُّ شيء وتعود الأمور الى نقطة الصفر».

تكرار هذا الوضع، زرع في الأجواء الرئاسية، فرضيّةً تشبه «القناعة» بأنّ أمراً ما بدأ يثير الريبة، سواءٌ ممّا باتت تُسمى «المعطِّلات» الداخلية للحكومة، وكيفية مقاربة الحريري لملفّ التأليف بصورة عامة و»مراعاته المستميتة» لموقفَي «القوات اللبنانية» و»الحزب التقدمي الاشتراكي»، أو ممّا يُسمّى بـ«المعطِّل الخارجي» الذي يبدو وفق ما ساد في تلك الأجواء، أنّ هناك خيطاً خارجياً يُرسَم خطوطاً حمراً ويقيّد أو يعيق توجّهَ الحريري لتشكيل حكومة.

أكثر من ذلك، قرّب هذا التكرار، الأجواء الرئاسية من اليقين بأنّ ثمّة جبهة سياسية تمّ الإيعاز بإنشائها من جهة خارجية لإضعاف عهد الرئيس ميشال عون، وتضمّ القوات والاشتراكي وتيار المستقبل. وربما كان هذا الأمر هو الذي دفع رئيس الجمهورية الى تغيير التكتيك الذي اعتمده منذ تكليف الحريري، والانتقال من المجاملة، الى الكلام الصريح وتوجيه السهام المباشرة في اتّجاه الرئيس المكلف، الى حدِّ تحميله مسؤولية تأخير ولادة الحكومة وتخييره بين حكومة وحدة وطنية وفق مسلّمات حدّدها عون كمعبرٍ إلزامي لهذه الحكومة تقوم على احترام نتائج الانتخابات النيابية، وأن لا احتكار للتمثيل الطائفي في الحكومة من أيِّ طرفٍ سياسي، حتى لا يتحكّم بميثاقية الحكومة وألّا يأخذ أحد في الحكومة زيادة عن حجمه. وبين حكومة أكثرية باعتبارها الأكثر ديموقراطية.

والخياران كلاهما تعجيزي أو مستحيل بالنسبة الى الحريري إذ لا يستطيع أن يسير بحكومة وفق مسلّمات عون، أو بالأحرى لا يسير بحكومة يشعر فيها أنه ضعيف وبلا وزن داخلها، وهو غير قادر على التراجع عن تأييده لموقفي القوات والاشتراكي لاعتبارات عدة منها ما هي مشترَكة معهما، ومنها ما لها علاقة بـ»الأصدقاء» و»الحلفاء»، وأهم من كل ذلك أنّ الحريري لا يستطيع بأيِّ شكل من الأشكال أن تملي رئاسة على رئاسة إرادتها ورغبتها وتحدّد خطّ سيرها وترسم لها خريطة طريق وتوجب عليها سلوكها، فمجرّد قبوله بذلك معناه الإقرار بأنّه ضعيف، وهذا الإقرار أقرب الى الانتحار السياسي والانتحار السنّي في آن معاً.

هذه هي صورة التأليف حتى الآن، وعلى الرغم من الحركة المتجدّدة للرئيس المكلف، وما رافقها من «مجاملات» و»غداوات» و»عشاوات»، وإفراط متجدّد في الغزل والوصال بين «اللونين الأزرق والبرتقالي، وعودة الحديث عن إعادة انعاش تسويات سياسية كانت تحتضر، لم يدخل على هذه الصورة المعقّدة أيُّ تعديل، ما خلا تجميل محدود لمفردات الخطاب، وهذا معناه أنّ الأمور في مكانها. في انتظار الفرج.

يقول السياسي المذكور: «إن كان التعقيد داخلياً، فمهما كان حجم التعقيدات فإنها لن تستعصي على الحلّ على الطريقة اللبنانية التقليدية شرط أن تتوفّر الإرادة في هذا الاتّجاه، فساعتئذ يرفع الجميع وبلا تردّد شعار «حكلِّي لحكلَّك». وكلّهم من دون استثناء يحبون الجبنة وخبراء في تقاسمها. لكنّ الأمر لا يبدو كذلك حتى الآن، وهذا معناه أنّ ثمّة مَن يمنع توفّر هذه الإرادة.

مَن هو؟

يسارع السياسي المذكور الى القول: ليس في الداخل مَن هو قادر على التعطيل، ولأنّ الأمر كذلك، يصبح الخارج متّهماً بمنع تشكيل الحكومة حتى تثبت براءتُه، وثمّة كلام كثير يُقال في مجالس الجميع يفيد بأنّ أطرافاً تلقّت نصائح من جهات خارجية بانتظار ما سيستجد في المنطقة.

فالأميركيون، وكما تفيد تلك النصائح، وضعوا إيران على منصة التصويب لإضعافها وهزيمتها عسكرياً في مدى غير بعيد، وذلك كتتمّة أكيدة للضغوط عليها بالتضييق والحصار والعقوبات وبإثارة الداخل الايراني ضد النظام، من دون أن نغفل العامل الاسرئيلي المتأهّب لمواكبة هذا التصعيد، هذا إن لم يكن في مقدمته. معنى ذلك أنّ إضعاف إيران يعني إضعاف «حزب الله» وكذلك النظام السوري، علماً أنّ الأميركيين سيزيدون من ضغوطهم السياسية والعسكرية في سوريا. وفي هذه الأجواء يمكن أن تتشكّل حكومة في لبنان تبعاً للمشهد الجديد. في المنطقة.

ولكن، يضيف السياسي نفسه، بصرف النظر عمّا إذا كانت هذه النصائح جدّية أو دقيقة، أو واقعية، أو تنمّ عن سوء قراءة للمشهد الايراني كما لمشهد المنطقة والتطوّرات المتسارِعة فيها، فإنها، قد تُصدَم بوقائع معاكسة لها، بدءاً من الملفّ اليمني والإحراجات العسكرية المتتالية فيه، الى الملف الايراني المعقّد اميركياً وغربياً، فضلاً عن استحالة إلحاق الهزيمة العسكرية بإيران لأسباب عدة، فلو سبق وتوافرت امكانية ولو بسيطة جداً لهذه الهزيمة، لما توانت الولايات المتحدة او إسرائيل لحظة عن توجيه ضربة قاصمة لهذه الدولة التي تُعتبر مارقة في نظرهم منذ إسقاط الشاه.

هذا، ووصولاً الى الملف السوري الذي يشهد منذ التدخّل الروسي في الحرب تحوّلاتٍ سياسية وعسكرية لمصلحة النظام مكّنته من إعادة السيطرة، وهو يتحضّر في هذه الايام لـ«معركة الحسم» في ادلب في الشمال السوري، بدعم مباشر من الروس. ويقال إنّ هذه المعركة باتت وشيكة، ومن شأن انتصار النظام فيها أن يقرّب الحرب السورية من خط نهايتها، فضلاً عن أنه سيخلق موازين جديدة في المنطقة وارتداداتٍ على كل المحيط بالتأكيد لن يكون لبنان بمنأى عنها.

هذا الامر يتطلب وقتاً يمكن أن يصل لعدة اشهر، ولبنان لا يستطيع أن يحتمل الفترة من الانتظار والفراغ. ولنفرض أن فُرض عليه الانتظار، فمَن يضمن ألّا تصدر اصوات في الداخل تطالب بتشكيل حكومة وفق هذا المشهد الجديد للمنطقة.