Site icon IMLebanon

بين «مشروع ليلى»… وحقوق المسيحيين

 

هناك جانبان في اعتراض بعض المسيحيين في لبنان على احياء فرقة ذات شهرة لبنانية وعربية وعالمية اسمها «مشروع ليلى» حفلة موسيقية في مدينة جبيل التاريخية. هناك الجانب المضحك… وهناك الجانب المبكي. يلتقي الجانبان عند حال الانحطاط التي وصل اليها بعض المسيحيين اللبنانيين، وهو انحطاط يعبّر عن سقوط حقيقي بدأ باتفاق القاهرة الذي وقعته الحكومة اللبنانية مع منظمة التحرير الفلسطينية قبل نصف قرن، في تشرين الثاني – نوفمبر 1969 وصولا الى مرحلة صار فيها «حزب الله» يختار رئيس الجمهورية اللبنانية.

 

المضحك في الامر ان ليس بين الذين يعترضون من يعرف ما هي «مشروع ليلى» وما اهمّية هذه الفرقة اللبنانية التي سبق لها ان لعبت في جبيل المدينة التي تمتلك تاريخا قديما والتي خرجت منها الابجدية. هؤلاء لا يعرفون حتّى لماذا تستأهل جبيل كلّ تكريم، بما في ذلك استضافة «مشروع ليلى».

 

من يرفض ظهور الفرقة في جبيل لاسباب لا تمتّ الى الحقيقة بصلة من قريب او بعيد لا يسيء الى جبيل فحسب، بل يسيء الى المسيحيين اللبنانيين أيضا والى كلّ ما له علاقة بالكنيسة والانفتاح على كلّ ما هو حضاري في هذا العالم. مضحك ان يكون «داعش» بين مسيحيي لبنان هذه الايّام. فمن يتصرّف بالطريقة التي تصرّف بها في الاعتراض على «مشروع ليلى» لا ينتمي سوى الى «داعش» فكرا وسلوكا. من قال ان «داعش» تعبير عن التطرّف لدى بعض السنّة. يبدو «داعش» موجودا اكثر من ايّ وقت لدى طوائف أخرى. في ما يخصّ بعض المسيحيين اللبنانيين، تبدو «داعشيتهم» غطاء لعنصرية دفينة تجاه الفلسطيني والسوري في ظلّ اعجاب منقطع النظير بالنظام الاقلّوي السوري!

 

المحزن في الامر ان الاعتراض على الفرقة الموسيقية واغنياتها يندرج في سياق السقوط المسيحي الذي بدأ في مرحلة ما بعد حرب العام 1967، عندما استفاقت الغرائز المسيحية من منطلق ان المشروع الناصري، نسبة الى جمال عبد الناصر، هُزم في المنطقة. قام الحلف الثلاثي في مواجهة الشهابية. كان حزب الكتائب اللبنانية بين ابرز الذين ارتكبوا خطأ كبيرا وقتذاك عندما خرج من الصفّ الشهابي (نسبة الى الرئيس فؤاد شهاب) لينضمّ الى الحلف الثلاثي الذي ضمّ الرئيس كميل شمعون والشيخ بيار الجميّل والعميد ريمون ادّه.  كانت لريمون ادّه، ذي النظرة الثاقبة الى كل ما يدور في لبنان وحوله، حسابات يريد تصفيتها مع ارث فؤاد شهاب. جعله ذلك يسقط في فخّ ما كان ليسقط فيه لو استطاع تجاوز الحساسيات الشخصية لمصلحة ما هو اهمّ من ذلك بكثير، أي للواقع الإقليمي الذي خلفته هزيمة 1967، وهو واقع ما لبث ان انعكس سلبا على لبنان. وقد انقذ ريمون ادّه، نائب جبيل، لاحقا موقفه ونفسه وصيته عندما تفرّد بين الزعماء المسيحيين في الاعتراض على اتفاق القاهرة متخلّيا عن عقدة رئاسة الجمهورية التي وقع زعماء الموارنة الآخرون في اسرها.

 

 

المحزن اكثر من ذلك، هذه الايّام، في تخلّي مسيحيي لبنان عن القضايا الكبرى والتلهّي بفرقة «مشروع ليلى». هل تغنّي في جبيل او لا تغني فيها؟ لعب مسيحيو لبنان دورا تاريخيا على كلّ صعيد في المنطقة. لعبوا دورا كبيرا في المحافظة على اللغة العربية. كانت أولى للمطابع في المنطقة في لبنان وفي اديرة لبنان. امتلك المسيحيون خبرة كبيرة في نشر العلم والمعرفة في كلّ المنطقة. اذا بينهم الآن من يعترض على «مشروع ليلى» بحجة انّه يسيء الى القيم المسيحية. ما هذه الحجّة التافهة التي تكشف حجم تراجع الدور المسيحي في لبنان لمصلحة كلّ أنواع التزمت والانغلاق. منذ متى يمكن لفرقة غناء وموسيقى الإساءة الى القيم المسيحية في عالم باتت الكنيسة تحتاج الى موسيقى وغناء كي يأتي اليها المؤمنون يوم الاحد.

 

في كلّ الأحوال، لم تخدم اثارة الغرائز الدينية المسيحيين في ايّ يوم من الايّام. في كلّ مرّة لجأوا الى الغرائز تعرّضوا لنكسة جديدة. لم يساعدهم في يوم من الايّام غير الانفتاح على الطوائف الأخرى وعلى محيطهم العربي. بدل التلهي بامور مثل حفلة «مشروع ليلى» في جبيل، يُفترض بهم التفكير مليّا في ان حلف الاقلّيات التي تريد ايران جرّهم اليه هو الطريق الأقصر الى الكارثة التي تنتظرهم في حال ساروا في هذا الاتجاه. بكلام أوضح، لا يمكن للمسيحيين استعادة أي حقوق بفضل سلاح «حزب الله». وحده اتفاق الطائف، الذي امّن لهم المناصفة، ينقذهم من أوهام سقطوا فيها عندما اوصلوا سليمان فرنجيّة الجد الى الجمهورية في العام 1970  من منطلق انّه رئيس قويّ. لا يمكن الشكّ بالقيم التي كان يمثلّها سليمان فرنجية ولا بوطنيته. ما يمكن الشكّ فيه هو معرفته بما يدور في المنطقة والعالم وعدم تقديره لخطورة دفع المسيحيين الى حمل السلاح وتشكيل ميليشيات لمواجهة التجاوزات الفلسطينية التي كان مفترضا بالدولة اللبنانية كلّها بمسيحييها ومسلميها وضع حدّ لها. لم يدر سليمان فرنجية وغيره من الزعماء المسيحيين ان تشكيل الميليشيات المسلّحة لم يكن سوى لعبة تصبّ في خدمة النظام السوري الذي كان يعدّ نفسه ليكون قوة فصل بين الفلسطينيين والمسيحيين وبين المسلمين والمسيحيين في كلّ الأراضي اللبنانية. بقي الجنوب استثناء. لا وجود سوريا فيه لان إسرائيل وجدت بعد 1976  انّ لديها مصلحة في بقاء المسلّحين الفلسطينيين فيه بحجة انّ لديها «الحاجة الى الاشتباك معهم بين حين وآخر».

 

في كلّ مرّة كان على لبنان التفكير في كيفية حماية نفسه، جاء من يثير الغرائز المذهبية، خصوصا لدى المسيحيين لادخالهم في لعبة ارتدت عليهم دائما بالويلات. من هذا المنطلق، هذا ليس وقت اثارة الغرائز ولا وقت اعتراضات على «مشروع ليلى». هذا وقت التفكير الجدّي في الازمة الاقتصادية التي يعاني منها البلد، وهي ازمة تهدد بالاطاحة بلبنان كلّه وبمصارفه.

 

ببساطة ليس بعدها بساطة، ثمّة حاجة الى أصوات مسيحية عاقلة تحذّر من خطورة التعرّض لـ»مشروع ليلى». مثل هذا التعرّض بكلام منحطّ يكشف الوضع المسيحي. يكشف خصوصا العجز عن الارتقاء الى مستوى التحديات التي تواجه لبنان بمسيحييه ومسلميه. يأتي في مقدّم هذه التحدّيات السلاح غير الشرعي التابع لإيران. يكشف خصوصا حال التدهور في الوسط المسيحي. لم يعد من طموح لدى الشاب المسيحي في لبنان سوى الهجرة. ولكن ما الذي يمكن توقعه من بلد لم يعد فيه بين المسيحيين من يدعو الى وقفة تأمّل والتساؤل: اين كنّا وأين صرنا بعدما صار مطلوبا استعادة الحقوق بسلاح «حزب الله»؟ كيف كان ممكنا ان يفوت لبنان على نفسه انتخاب شخص مثل الراحل نسيب لحّود رئيسا للجمهورية. هل حظ لبنان بمسيحييه ومسلميه سيىء الى درجة ان نسيب لحود في القبر الآن؟