IMLebanon

بين مذكرة الآستانة وتقسيم سوريا

ليس في المذكرة المتعلقة بإقامة «مناطق خفض التصعيد» التي وقعتها روسيا وايران وتركيا في الآستانة ما يبشّر بالخير بالنسبة الى مستقبل سوريا. هذا عائد أساسا الى وجود طرفين، على الاقلّ، يشاركان في الحرب على الشعب السوري. يعتبر كلّ من هذين الطرفين نفسه «ضامنا» لخفض التصعيد في مناطق معيّنة لم تحددها بوضوح المذكرة التي صدرت عن اجتماع الآستانة.

الأكيد، من متابعة مجريات الامور، انّ هذه المناطق تصلح أساسا لتقسيم سوريا في ظل رغبة كلّ طرف من الأطراف المعنية مباشرة بمستقبلها بحصول مثل هذا الامر باشراف النظام الذي اسسه حافظ الاسد ويديره حاليا بشّار الأسد. هل من وظيفة أخرى لهذا النظام الذي اخذ على عاتقه الانتهاء من سوريا بمجرّد انّها لم تعد «سوريا الأسد»؟

يؤكّد مثل هذه الرغبة في ايجاد غطاء دولي لتقسيم سوريا تقديم روسيا مشروع قرار الى مجلس الامن يدعو صراحة الى تأييد المجلس لما صدر عن الاجتماع الأخير في الآستانة. ترافق تقديم مشروع القرار الإعلان في نيويورك مع زيارة يقوم بها وزير الخارجية الروسي لواشنطن بغية اقناع الإدارة الاميركية بالموافقة على صدور قرار عن مجلس الامن في هذا الشأن تحت الفصل السابع.

مطلوب صراحة من مجلس الامن توفير غطاء لعملية تقسيم سوريا كي تصبح هناك مناطق نفوذ لروسيا وايران وتركيا وإسرائيل… والولايات المتحدة. الاهمّ من ذلك كّلّه، مطلوب ان تكون هناك منطقة عازلة بين إسرائيل وسوريا، ليست روسيا بعيدة عن مشروع اقامتها في ضوء التفاهمات القائمة بين الرئيس فلاديمير بوتين ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.

ليس سرّا ان الطرفين المشاركين مباشرة في الحرب على الشعب السوري هما ايران وروسيا، فيما الطرف الثالث وهو تركيا يعاني تعقيدات ذات طابع داخلي واقليمي ودولي في الوقت ذاته.

ثمة مجال لاخذ وردّ طويلين في ما يتعلّق بالدور الروسي في سوريا، خصوصا ان العلاقة بين موسكو ودمشق ذات تاريخ طويل مرتبط أساسا بمرحلة الحرب الباردة.

هناك رهان روسي على امكان استغلال الوضع السوري كي تظهر موسكو مجددا انّها عاصمة لقوّة عظمى تمتلك حق ان يكون لديها مناطق نفوذ خارج حدودها، خصوصا في المياه الدافئة، أي في البحر المتوسّط. في احسن الأحوال، يمكن افتراض ان روسيا تسعى الى التفاوض مع الولايات المتحدة من اجل مقايضة تكريس وجودها في شبه جزيرة القرم بتصرف مختلف في داخل سوريا. الهدف النهائي لموسكو هو الخروج من تحت سيف العقوبات الاوروبية والاميركية التي لا تريد الاعتراف بانّها اثرت على الاقتصاد الروسي… وضمان البقاء في شبه جزيرة القرم.

يظلّ الرهان على عقلانية روسية تقوم على صفقة مع واشنطن تشمل أوكرانيا وسوريا رهانا قائما. في نهاية المطاف، تعرف روسيا حجمها وتعرف خصوصا انّه لن تقوم يوما قيامة لاقتصادها، الهزيل أصلا، من دون رفع للعقوبات الدولية ومن دون ارتفاع لسعر النفط والغاز. وهذا لا يعتمد على الولايات المتحدة فقط، بل على دول الخليج، على رأسها المملكة العربية السعودية ايضا.

معروف ان روسيا ستساوم على رأس بشّار متى آن أوان ذلك. ما ليس معروفا ما الذي تريده ايران؟ هل تعتقد ان عملية التبادل السكّاني في سوريا تخدم أهدافها في المدى الطويل، أي تؤمن لها دور القوّة الإقليمية المهيمنة في الشرق الاوسط. من حقّ كلّ عربي، كما فعل الأمير محمد بن سلمان وليّ وليّ العهد السعودي، الاعتراض بقوّة ووضوح على السياسة الايرانية. ظهرت هذه السياسة بوجهها الحقيقي، أي الوجه البشع الذي يؤمن بالاستثمار في اثارة الغرائز الطائفية في كلّ بقعة ارض استطاع «الحرس الثوري» بلوغها، خصوصا في العراق ولبنان وسوريا واليمن.

سقطت ايران في الفخّ الذي ارادت ان تنصبه للعرب. لم يعد هناك من يصدّق ان لديها مشروعا يمكن الاقتداء به. ما تشهده سوريا منذ العام 2011 كشف حقيقة الدور الايراني الذي تعرّف اليه اللبنانيون عن كثب باكرا، أي منذ سمح حافظ الأسد لجحافل «الحرس الثوري» بدخول الأراضي اللبنانية في العام 1982 ومباشرة تنفيذ عملية مدروسة بدقّة ليس بعدها دقّة بهدف تغيير طبيعة المجتمع الشيعي في لبنان، فضلا عن تغيير التركيبة السكّانية لبيروت ومناطق اخرى. وهذا ما بدأ يتبلور منذ يوم السادس من شباط 1984، وهو يوم مشؤوم خرجت فيه الدولة اللبنانية ومؤسساتها من بيروت الغربية ذات الأكثرية المسلمة وحلّت مكانها الميليشيات المذهبية.

تؤسس مذكرة الآستانة التي وقّعتها روسيا وايران وتركيا لتقسيم سوريا. لكلّ دولة من الدول الثلاث اجندتها. هناك اجندة إسرائيلية بالطبع. وتكمن خطورة الاجندة الايرانية في انّها تقوم على تبادل سكاني من منطلق مذهبي. ففي الوقت الذي كان يجري الترويج لمشروع القرار الروسي في أروقة مجلس الامن، كانت تتم عملية تهجير لبعض أهالي دمشق المقيمين في حيّ برزة. تعتبر عملية التهجير هذه مؤشرا في غاية الخطورة وذلك ليس نظرا الى انّها تأتي في سياق عمليات مماثلة أخرى سبقتها فحسب، بل لانّها تشير الى نيّة في الذهاب الى النهاية في مشروع تطويق دمشق وربط منطقة سورية معيّنة بالاراضي اللبنانية أيضا. والمقصود هنا الأراضي اللبنانية التي تحت السيطرة المباشرة لإيران عن طريق ميليشيا «حزب الله» التابعة لها.

هل تبتلع الولايات المتحدة طعما اسمه مذكرة الآستانة التي تضع الأسس لصيغة تنتهي بتقسيم سوريا لمصلحة ايران وروسيا وتركيا؟

ايّام قليلة ويظهر ما اذا كانت إدارة دونالد ترامب حذقة ما فيه الكفاية لتفادي السير الى النهاية في مشروع يخدم كثيرين، على رأسهم ايران، لكنّه يعني قبل كلّ شيء التفتيت الكامل لسوريا التي عرفناها.